جاء في الجمهورية:
في ظلّ أزمة الدّواء واستفحالها، لا سيّما وسط الصرخات المتتالية والموجعة للمرضى اللبنانيين، تحديداً مرضى السرطان وبعض الأمراض الأخرى المستعصية أو المزمنة، كَثُر الحديث عن هوامش الشركات المستوردة للأدوية وعن تراكم أرباحها، التي نعتها البعض بالفاحشة. كما وذهب بعض السياسيين والمعنيين إلى دعوة الدولة اللبنانية إلى استيراد الأدوية مباشرةً، لفرض نوع من الحلّ لهذه الحالة المأزومة.
لطالما اتُّهم تجّار الدواء اللبنانيون بالإثراء على حساب المرضى، وذلك حتّى قبل الأزمة، فهل هذا الاتّهام دقيق؟ أجرينا تحقيقاً شاملاً حول هوامش الأرباح لمستوردي الأدوية في بعض من دول المنطقة العربيّة المجاورة للبنان مثل الأردنّ ومصر، ودول المغرب العربي كتونس والجزائر والمغرب، ودول مجلس التعاون الخليجي أي المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان والإمارات العربية المتّحدة الكويت والبحرين وقطر. أضفنا أيضاً إلى لائحة الدول هذه الجمهورية الاسلامية الإيرانية، وذلك عمداً، نظراً إلى مطالبة البعض بالاستيراد منها، على أساس أنّها أقلّ كلفة من أسواق عالمية أخرى للدواء. وقد حصلنا على معلومات وأرقام تتعلّق بهوامش الاستيراد والتوزيع في كلٍّ من هذه الدول المعنيّة. والجدير ذكره أنّ الهامش المحدّد ليس حرًّا في أيّ من هذه البلدان، بل تقوم بتحديده وزارة الصحّة أو السلطة الناظمة المعنيّة في كلّ منها، كما هو الحال في لبنان، حيث تقوم وزارة الصحّة العامّة حصرًا بتحديد أسعار مبيع الدواء للعموم، كما وهوامش الأرباح للشركات المستوردة وللصيادلة على حدّ سواء.
بناءً عليه، قمنا بعمليةٍ حسابيةٍ تحليليةٍ لمقارنة هذه الأسعار والهوامش. وقد واجهنا بعض التّحدّيات الحسابيّة في مقارنة نسب الاستيراد والتوزيع، كون هذه النسب متحرّكة وفقًا لشرائح الأسعار. وعليه، فكلّما ارتفع سعر الدواء، كلّما انخفضت نسبة الهامش. إلّا أنّ الشرائح في الوقت نفسه تختلف من بلدٍ إلى آخر. لذلك، تصعب المقارنة بين هذه البلدان مباشرةً. وبالتّالي، ولكي يكون التحقيق عمليًا ودقيقًا من الناحيتين الحسابية والتحليلية، قمنا بمقارنة الشريحة الأدنى، وهي بالإجمال أدوية متوفّرة للعموم أي الأدوية المتاحة دون وصفة طبّية OTC Over the Counter) s) كالأدوية المتعلّقة بمعالجة الصداع والسّعال وغيرها. وقمنا كذلك الأمر بمقارنة الشريحة الأعلى، وهي بالإجمال أدوية تتعلّق بالأمراض المستعصية كالسّرطان. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض البلدان تفصل هامش الاستيراد عن هامش التوزيع، في حين أنّ بلدانًا أخرى تدمجهما، كالمملكة العربية السعودية والإمارات والأردن ولبنان. لذلك، دمجنا الهامشين معًا، في محاولة لإجراء المقارنة الحسابية بطريقة واقعية وعملية.
بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ أنّ المصاريف الّتي يتوجّب تغطيتها ضمن هامش الاستيراد والتوزيع تختلف بين بلدٍ وآخر. فكلّ بلد يمتلك نظامه الاقتصادي الخاص، كما وقوانينه وأنظمته الأخرى المرعيّة الإجراء. ولكنّ هذه المقارنة تبقى نتيجتها واضحة، بالرغم من أنّ هذه المعايير تختلف. ويتبيّن بحسب النتائج، أنّ أدنى نسبة هامش محدّدة للشريحتين أعلاه، أي شريحة الأدوية الأدنى سعرًا، وشريحة الأدوية الأعلى سعرًا، هي في لبنان! وتأتي هذه النتيجة لتنقض علميًا كلّ الادّعاءات المتكرّرة المذكورة أعلاه، والتي يظهر فيها لبنان كالدولة ذات النسبة الأدنى بين كلّ دول المنطقة. وقد تواصلنا مع بعض الخبراء في موضوع الدواء، الذين أكّدوا هذه النتيجة بالأرقام وبحسب الواقع الحالي، بدليل أنّ الشركات العالمية التي تزوّد الدول العربية والمنطقة المحيطة بلبنان بالأدوية، تؤكّد أنّ لبنان يمتلك الشروط الأصعب في ما يخصّ الهوامش والأرباح في المنطقة.
وكما يظهر في الجدول الأول أدناه، تضمّ الفئة الأولى الّتي تتعلّق بهامش شركات الأدوية لشرائح الأدوية الأعلى سعرًا كأدوية السرطان، عدّة مجموعات، تتراوح بين 7,5% كنسبة أرباح في لبنان، وهي تحديدًا الأدنى، وبين 10 و15% في مجموعة أخرى تضمّ تباعاً الجزائر، والمملكة العربية السعودية، والمغرب، والبحرين، ومصر، والإمارات العربية المتّحدة، وإيران. أمّا بالنسبة للمجموعة الثالثة، حيث تتراوح نسبة الهوامش بين 19 و28%، فهي تضمّ تباعًا الأردن (أدنى نسبة)، ثمّ قطر، والكويت، وسلطنة عمان، انتهاءً بتونس، حيث تصل نسبة الهوامش إلى 28%.
أمّا بالنسبة إلى الفئة الثانية والّتي تضمّ هامش شركات الأدوية لشرائح الأدوية الأدنى سعرًا، وحسب الجدول الثاني أدناه، فيبقى لبنان كذلك الأمر في المرتبة الأدنى، حيث يصل هامش ربح الشركات إلى 10%. ويقفز هذا الهامش إلى 15% في المملكة العربية السعودية، وهي البلد ذات النسبة الأقرب إلى لبنان. وتليها مجموعة تتراوح فيها النسبة بين 15 و20%، تضمّ الإمارات العربية المتّحدة، ومصر، والبحرين، والأردن، وقطر. والمجموعة الثالثة والأخيرة تتراوح فيها النسبة بين 20 و28%، وهي تضمّ الجزائر، والمغرب، والكويت، وإيران، وعمان، وتونس حيث تصل النسبة إلى 28%.
يُظهر الجدولان والأرقام بشكل واضح لا يقبل الشكّ، أنّ لبنان هو الدولة التي تفرض نسبة الهامش الأدنى بين كافة دول المجموعة العربية، لا بل حتى انّه أدنى من إيران. وبالتّالي، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو، ما هو الهدف من تكرار معزوفة الأرباح الفاحشة مراراً وتكراراً؟ وما هو المطلوب فعليًا، إذا كان لبنان يطبّق أدنى نسبة هوامش في كلّ محيطه القريب والأبعد؟…
من جهتها، تعتبر الشركات اللبنانية المستوردة للأدوية، أنّ هذه النسبة المحدّدة للهوامش، والّتي هي الأدنى في المنطقة كلّها، لا تشكّل نسبة ربح في ظلّ الظروف الحالية، إنّما هي هامش يغطّي بالكاد مصاريف الشركات، بما فيها المصاريف الثابتة والمتحرّكة وغيرها.
في اطار ما تقدّم، يتساءل مراقبون اقتصاديون عن جدوى هذه المطالبات بالبدء بالاستيراد مباشرةً من قِبل الدولة اللبنانية. وبالإضافة إلى أنّ نسبة الهوامش هي الأدنى في لبنان، كما وأنّ هذه النسبة بالكاد تغطّي مصاريف الشركات المُتّهمة بالإثراء، على أي أساس يطالبون بتحميل الدولة مسؤولية إضافية الا وهي الاستيراد المباشر للدواء، في حين أنّها غير قادرة على إنجاز أبسط مسؤولياتها؟ يعلم جميع اللبنانيين بما هو واقع الحال المزري في قطاع الكهرباء المُحتكر كلّيًا من الدولة. كما ويشهد الجميع اليوم على ما يحدث في قطاع الاتصالات، الذي بات ينهار كالدومينو بعد استلامها له بالكامل. كما ويعرف القاصي والداني، انّه ومنذ بدء الأزمة، فإنّ القطاع العام اللبناني برمّته غير موجود… فكيف يمكن مطالبة الدولة باستيراد الأدوية لحلّ الأزمة، في حين أنّها غير قادرة على تأمين حاجات أبسط بكثير من الدواء وتعقيداته؟..
من الواضح أنّ الحلّ لأزمة الدواء يكمن في مكان آخر. ومن الجليّ ايضًا انّ أزمة الدواء ماليّة بحتة. فقد كان حجم سوق الدواء قبل الأزمة أكبر بكثير مما هو عليه اليوم. حالياً، الرقم المُتداول بين السلطات المعنيّة ومصرف لبنان ووزارة الصحّة العامّة والقطاع الخاصّ تحديدًا مستوردي الأدوية، هو 25 مليون دولار شهرياً. وعليه، فلماذا لا يعمل المعنيّون في الدولة على إيجاد مصادر تمويل لزيادة هذا المبلغ، ولتخفيف الحمل والمعاناة عن اللبنانيين؟