23-نوفمبر-2024

كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:

تتعدّد المشكلات والمسبب واحد؛ سلطة سياسية آثرت مصالحها الفردية الضيقة على حساب المصلحة العمومية. المسؤولون الذين ميّعوا ملف ترسيم الحدود البحرية لنيل مكاسب سياسية، وحفظ ماء الوجه في “الطاقة”، لم ينالوا ما وعدوا به من كهرباء أردنية وغاز مصري. فأصابهم كما أصاب “من حضر المولد وخرج منه من دون حمص”.

في ذروة تفعيل المرسوم 6433 الذي ينقل حق لبنان بالتفاوض على الحدود البحرية إلى الخط 29، في الربع الاول من العام 2021، “كُبّت مياه باردة” على المبادرة. فالمرسوم الذي وقع في 12 نيسان من ذلك العام من قبل رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، بعدما وقع عليه وزيرا الدفاع والاشغال، لم يكن ينقصه إلا توقيع رئيس الجمهورية، وهذا ما لم يحدث. لم تمض أسابيع قليلة حتى تلقى لبنان عرضاً يقضي بامكانية تمويل البنك الدولي عملية استجرار الكهرباء من الاردن والغاز من مصر لزيادة ساعات التغذية. وقد وعد لبنان بتخطي كل العقبات التي تواجه هذا المشروع وفي مقدمها قانون “عقوبات قيصر” المفروض على سوريا. بالتوازي كان الوسيط الأميركي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل آموس هوكشتاين، يحمل عرضاً وسطياً عرف في ما بعد بأنه خط متعرج ينطلق من الخط 23 ويعطي للبنان جزءاً كبيراً من حقل قانا، لكنه يخسّر لبنان المسافة الفاصلة عن الخط 29 والتي تقدر بـ 1430 كلم².

سقوط سلة العروض

عودة السخونة إلى ملف ترسيم الحدود البحرية مع وصول سفينة ENERGEAN POWER إلى حقل كاريش الواقع ضمن الخط 29 جعلت من الجلوس إلى طاولة المفاوضات، انطلاقاً من العرض الذي حمله هوكشتاين سابقاً، شبه مستحيل. و”هو ما سيترك انعكاسات أكيدة من جهة ثانية على المفاوضات التي تعمل على تذليل العقبات التي تعترض وصول الكهرباء من الاردن والغاز من مصر”، بحسب الخبير في شؤون الطاقة فادي جواد، فـ”العرض الذي قدّم للبنان لتلافي “الغرق” في المازوت الايراني لم يبصر النور بعد 10 أشهر، وعلى الارجح أنه لن يبصر النور قريباً، رغم كل التحضيرات التي جرت خلال الفترة الماضية”. وبرأي جواد فان “الملف الذي لا يرتبط فقط بموضع ترسيم الحدود إنما بسلة كاملة تتعلق بتنظيم الوضع الداخلي اللبناني والقيام باصلاحات أساسية، جمّد، ولا يوجد قرار لغاية اللحظة باعادة إحيائه من جديد”.

إهمال الاصلاحات هو السبب

بغض النظر عن تسخين ملف استجرار الطاقة من الدول العربية أو تبريده، بالتزامن مع عودة الضغط في ملف الترسيم البحري، فمن الواضح للقاصي قبل الداني أن لبنان لم يلتزم بتنفيذ الاصلاحات المطلوبة في قطاع الطاقة. وبالاضافة إلى المعارضة من قبل جزء كبير من الكونغرس الاميركي على فتح نافذة لتمويل نظام الاسد “قانونياً” من هذه الصفقة، حيث ستستفيد سوريا من نحو 8 في المئة من الطاقة المستجرّة، فان التمويل متوقف اساساً لاستشعار البنك الدولي ومن خلفه الولايات المتحدة بفساد الطبقة السياسية المسؤولة عن الملف، واهتمامها فقط بالحلول الآنية الترقيعية من دون الدخول بالحل الدائم. ولعل أبسط دليل على ذلك الاختلاف على صفقات إنشاء المعامل بدلاً من العمل على تقليص الهدرين الفني وغير الفني اللذين يتوقع أن يكونا قد تجاوزا 50 في المئة. ومع مثل هذه النسبة من الهدر، إذا ما أضيفت على حصول سوريا على 8 في المئة فان لبنان لن يستفيد بأكثر من 40 في المئة من مجمل الطاقة المستجرّة من الاردن بقدرة 200 ميغاواط، وبكلفة 220 مليون دولار لمدة سنة واحدة فقط.

هذا عدا عن أن ربط سعر الخدمة الكهربائية من الاردن بسعر خام برنت سيؤدي إلى رفع تدريجي في سعر الكيلوواط المباع داخلياً في ظل الارتفاع المستمر في أسعار النفط عالمياً. وعليه فان السعر المحدد بـ 12 سنتاً على أساس سعر خام برنت بـ 113 دولاراً سيرتفع أكثر، مما يفقد العرض اهميته خصوصاً إذا ما قورن مع حلول اخرى مثل الانتقال إلى الطاقة الشمسية على صعيد فردي. وبالاضافة إلى ذلك فان الموافقة الاميركية التي وعد بها لبنان والالتفاف على قانون قيصر ليسا كافيين لاستجرار الكهرباء من الاردن عبر سوريا، فالبنك الدولي الممول للمشروع لديه امور اخرى يركز عليها غير المواقف السياسية ومنها: اصلاح قطاع الكهرباء في لبنان، وكذلك اصلاح مؤسسة كهرباء لبنان ووقف العجز والهدر فيها واجراء تدقيق مالي، ورفع التعرفة وتخفيض الهدر الفني ورفع التعديات على الشبكة وتحسين الجباية، وتعيين الهيئة الناظمة، اضافة الى ضمان قدرة لبنان على سداد القرض، وكلها امور لم تحصل حتى هذه اللحظة.

الحدود البحرية أهم

في المقابل يعتبر جواد أن “التقييم التجاري للثروة النفطية الموجودة في المنطقة التي تمتد بين الخط 1 والخط 29 بمساحة 2290 كلم² لا تقارن مع ما يمكن أن يحصل عليه لبنان من طاقة”. وليس من مصلحته التنازل عن ثروة مقدرة بـ 32 تريليون قدم³ من الغاز لمصلحة 200 ميغاواط كهرباء من الاردن و 650 مليون م³ من الغاز المصري سيحصل عليهما مقابل دين بالدولار. وإن كان لا بد للبنان المفاضلة بين العرضين فمن مصلحته، برأي جواد، “التشدد في الحصول على أكبر نسبة ممكنة من الرقعة البحرية المتنازع عليها”. لكن هل سيستطيع لبنان إعادة عقارب المفاوضات إلى الوراء بعدما تحول التنقيب في حقل “كاريش” إلى أمر واقع؟ وما الثمن الذي قد يدفعه لبنان جراء تسخين هذا الملف؟

إنطلاقاً من معلومات خاصة يقول جواد إن هناك أمرين مؤكدين:

الاول، أن رئيس الجمهورية لن يوقع المرسوم 6433 إلا بعد فوات الاوان، وفي المرحلة التي يحسم فيها حق اسرائيل في حقل كاريش التي ستبدأ الباخـرة التنقيب فيه بعد أسابيع.

الثاني، أن بدء الحفر في حقل “كاريش” لن يؤدي إلى عمل عدائي أو عسكري كما يتوقع البعض. فالاستثمارات الضخمة بمليارات الدولارات من الجانب الاسرائيلي واستقدام باخرة الحفر بكلفة تصل إلى 800 مليون دولار لم تتم اعتباطياً، انما بعد توفر ضمانات عن عدم اندلاع أي مواجهات. وعليه لن يدخل الجانب الاسرائيلي بمغامرة عسكرية تفوت عليه الحصول على ثروة هائلة.

خط التسوية

حل هذا النزاع سيكون بحسب جواد باعتماد خيار من اثنين: إما التوصل إلى خط تسوية جديد بين الخطين 23 و29، أو اعتبار المنطقة المتنازع عليها منطقة مشتركة توضع تحت وصاية شركة أميركية دولية بنسبة 100 في المئة، تديرها مقابل اعطاء المردود للطرفين بنسب يتفق عليها سابقاً.

مع تجميد ملف استجرار الكهرباء الاردنية والغاز المصري، فان الكميات المنتجة من النفط الاردني التي لا تتجاوز 300 ميغاواط ستتوقف كلياً بعد 3 أشهر. ومن بعدها سيدخل لبنان في انقطاع لكهرباء الدولة 24/24، وسيعجز معظم المواطنين عن الاستعانة بالمولدات الخاصة التي يسعر بعضها الكيلوواط على اكثر من 14 ألف ليرة.