لا يمكنُ لأي أحدٍ أن يتصوّر حجم الذل الذي يعيشُه اللبناني كل يوم، من الوقوف في الطوابير أمام محطات الوقود وصولاً إلى انعدام فرصته في الحصول على الدواء والغذاء والكهرباء والماء، حتى أن الأمنَ بات مهدداً بالانهيار.
وأمام مشهد الدمار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ترى الشارعَ “لا ينتفض” و “لا يثور”.. فهل الناسُ باتت مُخدّرة وتأقلمت مع الواقع؟ هل بات الشعبُ لا يعوّل على الشارع؟ هل سئم الناسُ من التحرّك؟ لماذا لا نرى مشهد التظاهرات المركزية في مختلف المناطق؟ لماذا لا نرى التحركات الشعبية العارمة في الساحات؟ أين هي المجموعات التي انبثقت من رحم الحراك؟ أين هي “انتفاضة 17 تشرين”؟
كلّ هذه الأسئلة يطرحها من كان لديه أملٌ بالتغيير جراء تلك “الثورة” التي كان لبنان سيصنعُ المجد من خلالها، لولا قيام الأحزاب الطائفية والسلطوية بخرقها وسرقتها وتضليلها. ومع هذا، كان هناك الكثير من الأشخاص الذين أرادوا التسلّق على الحراك والبروز في الواجهة.
ولكن، ما هي الشرارة التي يمكن أن تشعل الشارع من جديد؟
لا شكّ أن الشعب اللبناني يتمنى انتظام الأمور، لكن ذلك لن يحصل طالما لا تحرّكات وانتفاضة شعبية عارمة، وطالما لا خلع لعباءة الأحزاب والانطلاق نحو الوطن ككل. وفعلياً، لقد ثبُت أنّ التغيير في لبنان لا يمكن أن يكون بانقلابات ولا بأي انتفاضة شعبية غير محدّدة الأهداف.
يسألون أيضاً؟ لماذا قطعُ الطرقات؟ نعم، هذه الوسيلة كانت نافعة في بداية الانتفاضة، لكن الناس اليوم انقلبوا عليها، ويعتبرون أنها تخنقهم وتضرّ أكثر مما تنفع. ولكن؟ ما الحل؟ ما هو البديل للتعبير عن الذل؟ ما هي الوسائل التي يمكن أن تؤجج الشارع الثوري من جديد؟
قبل انتفاضة الـ17 من تشرين الأول عام 2019، كان الدولار قد بدأ فعلياً بالارتفاع اعتباراً من أيلول 2019. حينها، لم نشهد أي انتفاضة شعبية أو تحركات بارزة، ولكن الناس أصيبت بالذهول باعتبار أن الأوضاع بدأت تنقلب والأسعار راحت ترتفع. ومثل اليوم، كان الاحتجاج افتراضياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبرُ ساحة الجميع، ولكن قدرتها على التغيير ضعيفة جداً وغير مؤثرة.
ومع مرور الأيام القليلة بعد أيلول ووصولاً إلى تشرين الأول في ذلك العام، برز الطرح المتعلق بفرض ضريبة 6 دولار على خدمة “الوتساب”.. وهنا كانت شرارة الانفجار، إذ بدأت التحركات والتظاهرات واندفع الناس إلى الشوارع، وعرفت تلك الأحداث حينها بـ”ثورة الواتساب”.
في الحقيقة، قد يكون “الواتساب” وحده هو الذي أجّج الشارع وجعل كل المطالب بشأن التغيير تتوحّد. لولا التطبيق المملوك من شركة “فيسبوك” التي يديرها الملياردير مارك زوكربيرغ، لما كانت الناس تحركت بهذه القوة. وهنا، نقول “شكراً مارك زوكربيرغ” لأن تطبيقك المجاني في لبنان أشعل انتفاضة..
ومع توالي الأيام، استمرت التحركات لكن وهجها بات يخف، حتى فرغت الساحات من روّادها. واليوم، ترى ساحة الشهداء هادئة ورياض الصلح أيضاً وجل الديب وساحة النور وكل الساحات المنتفضة، رغم أن الأوضاع باتت متدهورة أكثر من ذي قبل.
وإزاء كل ما يحصل، ما هي الشرارة التي ستشعل الشارع؟ في رأيي انه لو وصل الدولار إلى 100 ألف فاللبناني لن ينتفض.. لو ارتفعت الأسعار إلى أعلى سقف فالشارع لن يتحرّك.. ولكن، كيف يمكن أن يحصل الحراك؟
بكل بساطة، أثيرت مخاوف خلال الأسبوع الماضي من امكانية انقطاع الانترنت عن لبنان بسبب عدم قدرة معامل الطاقة على انتاج الكهرباء، فضلاً عن شح مادة المازوت لتشغيل المولدات. وهنا بدأت الأصوات ترتفع.. كيف يمكن للانترنت أن ينقطع؟ ماذا سيحلّ بنا؟
ومن دون أدنى شك، عندما ينقطع الانترنت في لبنان، وعندما ترتفع أسعار بطاقات تشريج الهواتف، سترى الشارع قد انتفض بكل قوة.. كذلك، عندما يفرض مصرف لبنان قيوداً على سحوبات التحويلات الخارجية بالدولار، لن يبقى أحدٌ في منزله، لأن أكثرية الناس يعتمدون على الدولارات الخارجية لتلبية حاجاتهم وأوضاعهم. أما عندما يتم سحب هذه الورقة منهم، فإن الجميع سينقلب على الحكومة وعلى المسماة بـ”دولة”.. وستكون خراباً ودماراً.. وفي الحقيقة، طالما لم يحصل ذلك فلن ترى انتفاضة ولن ترى حراكاً.. وفي المحصلة، الإنترنت سيقلب كل شيء في لبنان.. وبطاقات التشريج أيضاً.. واذا كان ذلك هو الأمل بالتغيير والطريق نحو الحل وانهاء مشاهد الذل، فلينقطع الانترنت ولترتفع أسعار تشريج الهواتف.. اليوم قبل الغد..