كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
تثير الصور المتداولة على وسائل التواصل التي تظهر اكتظاظ المطاعم والمسابح في لبنان، بروادها، ذهول ونقمة السواد الأعظم من المواطنين. فهي تناقض إلى حد بعيد أرقام التقارير المالية الدولية التي تنبئ بانحدار لبنان نحو أزمة غذاء بفعل الأزمات المالية التي تعصف به، والتي صنفها البنك الدولي على انها احدى اسوأ ثلاث أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ففي مقابل مشهد طوابير السيارات أمام محطات الوقود تنتظر دورها لتعبئة البنزين، لا تتوقف أرتال السيارات عن السير في الطرقات العامة متسببة بزحمة سير خانقة، وكأنه لا أزمة.
ورغم انخفاض قيمة الأجور، وارتفاع بعض اسعار السلع الغذائية واللحوم بنسبة %400 الى %500، تجد المطاعم مكتظة بالزبائن حتى تكاد لا تعثر على كرسي شاغر في عطلة نهاية الاسبوع
ومع بدء الموسم الصيفي، ارتفعت حجوزات الفنادق والمنتجعات السياحية برغم كلفتها الباهظة لمن يتقاضى راتباً بالعملة الوطنية. وبدأت المسابح تعج بروادها، علما بأن سعر بطاقة الدخول الى المسابح اصبحت ما بين 100 ألف ليرة و400 الف ليرة، متجاوزة ثلث الحد الأدنى للاجور.
وقياساً على هذه الوقائع، يمكن التقاط مظاهر اجتماعية شديدة التناقض يصعب تفسيرها، وإن كان البعض يعتبرها فرادة لبنانية تضاف الى سلسلة الظواهر غير المفهومة.
فمن جهة، كل التقارير المحلية والدولية تؤكد أن نصف سكان لبنان بلغوا مرحلة الفقر. ومن جهة، تشهد البلاد ازدحاماً في المطاعم والمقاهي، بصورة تشي بأن البلاد تعيش رفاهية كبيرة.
تقول سارة وهبة، وهي موظفة في القطاع العام منذ 16 سنة، وتدنت قيمة راتبها (مليونان و500 الف ليرة) من 1700 دولار إلى 200 دولار: «المطاعم والمسابح مكتظة فيما نحن نحتفل اذا اشترينا ساندويش شاورما. زحمة السير مرعبة والبنزين بالقطارة. كل ذلك والمغتربون لم يأتوا بعد.. يا لروعة الانهيار اللبناني».
من جانبها، تبدو زميلتها كريستين مطر أقل غضبا، وتجد اعذارا مخففة لمن يواصلون حياتهم بطريقتهم المعتادة قبل سنتين، وتقول لـ القبس: «لماذا الاستغراب من زحمة المطاعم؟ هؤلاء من الفئة التي كانت تسافر ولم يعد بمقدورها السفر، او ممن لديهم مغترب ويعيشون على حسابه. اما بقية اللبنانيين فجُلّ همهم توفير غذائهم اليومي».
ولهذا التفاوت العميق بين أرقام التقارير الدولية وبعض مظاهر الرفاهية تفسيرات اقتصادية أوردتها «الدولية للمعلومات» في دراسة صدرت حديثاً.
فبحسب الدراسة هناك حوالي مليون لبناني لديهم قدرة شرائية عالية وبالدولار هم فئة الـ%5 من اللبنانيين الأثرياء، أي 215 ألف لبناني، يضاف اليهم نحو 850 ألف لبناني يتلقون تحويلات بالعملات الأجنبية من الخارج، من أبنائهم وأقاربهم، وتتراوح قيمة الحوالة بين 200 وألفي دولار شهرياً، مما يعطي هذه الفئة قدرة شرائية عالية.
هذه الأرقام تبرر مظاهر الرفاهية غير الواقعية، الا انها لا تلغي حقيقة أن هناك نحو 3 ملايين لبناني يعيشون أوضاعاً اقتصادية صعبة. ما يؤكد استمرار التناقض في لبنان والذي يقسم المجتمع إلى طبقات، وحتى الى جزر معيشية.
عينة عن احدى هذه الجزر على سبيل المثال، تقع في منطقة وسط بيروت والواجهة البحرية للعاصمة. ففي هذا الشارع الذي يضم متاجر لأفخر الماركات العالمية، وعددا من المطاعم الراقية، يتلاقى أبناء مجتمع الاثرياء كل مساء. فيزدحم الشارع بأصحاب السيارات الفارهة والسيجار الباهظ الثمن. ولهذا الشارع قوانينه التي تراعي راحة رواده وعدم ازعاجهم بأي مشهد يعكر عليهم صفو رفاهيتهم. ولا يسمح للعابر بمحض الصدفة أن يلتقط صورا للمكان، لأن حراس المطاعم يهبون لمنعه بحجة أن «للمكان خصوصيته. ومعظم رواده هم من المسؤولين السياسيين والأمنيين وأصحابهم وأبنائهم».
وفي مقابل هذه الفئة، هناك أكثر من 95 في المئة من العاملين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية التي فقدت قيمتها. ومن بينهم 3 ملايين يعيشون في ظروف وأوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، لاسيما في ضواحي بيروت وفي مدن شمال لبنان طرابلس وعكار وفي البقاع، حيث تعمل بعض الجمعيات والاحزاب السياسية على سد حاجاتهم اليومية بإعانات غذائية ومساعدات طبية.
يشير الخبير المصرفي علي نور الى ان أهمية تقرير البنك الدولي لم تكن في الأرقام الصادمة التي عرضها، بل تحليله للأرقام من ناحية تداعياتها الاجتماعيّة البعيدة الأمد، ومسؤوليّة السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والنقديّة عن هذا الواقع.
ويحدد التقرير الضحايا أو المستهدفين بهذه الحرب غير المعلنة، وهم الفئات التي تحمل اليوم كلفة الانهيار، أي صغار المودعين والعمال والمؤسسات الصغيرة الحجم.
وأظهرت الاستبيانات أن نحو %41 من العائلات المقيمة في لبنان تواجه اليوم أزمة في الحصول على الغذاء. أما الأخطر، فهو أن ما يقارب %36 من هذه العائلات صارت تواجه اليوم مصاعب في تأمين كلفة الخدمات الصحيّة الأساسيّة. أما معدلات البطالة، فارتفعت لتلامس مستوى %40 من إجمالي القوّة العاملة في البلاد.