19-أبريل-2024

“ليبانون ديبايت” – روني ألفا

لم يستفزّني مشهدُ حافلاتٍ تقلُّ سوريين يتوجهونَ للإدلاءِ بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية السورية. لم تجرّني ممارساتُ نهارِ أمس على تذكُّرِ شعار ” السوري عدوّك ” التي كانت تُرسَمُ بعبوات البويا على أغلب الحيطان في الأحياء المسيحية الشعبية. أن يَحمِلَ السوريون صُوَرَ بشار الأسد مشهدٌ طبيعيٌ أيضاً طالما أنهم لا يتحدّون أحدًا.

ليسَ هناكَ في دستورنا مادة تجرّمُ فعلَ رُكوبِ حافلةٍ والتلويحَ بعَلَمٍ كما أنه لا مادة قانونية أو دستورية تمنعُ مواطنَ دولةٍ أجنبيةٍ من الإدلاء بصوته في بلدنا. غيرةُ الدين استيقظتْ في توقيتٍ مشبوه ولغايةٍ مشبوهة في نهر الكلب؟للنقاش الهادئ. أكثرُ حقداً من القصفِ الإسرائيلي على غزّة عنصريّةٌ تقصفُ حافلات سوريين فقراء لا ذنبَ لهم سوى أنَّ الحربَ على سوريا أجبرتهم على النزوح. ماذا يستفيدُ قطّاعُ الطرق من تفلِّتِ الغرائزِ سوى استنهاض الأحقادِ ونبش قبور الحرب التي من المفترض ان تكونَ قد ولَّتْ من دونِ رجعة؟

في تقريشِ السياسةِ المكسبُ واضح. محاولةُ العودةِ إلى كانتون مع كاملِ عتاده العقائدي الضيق. تحشيدٌ لشبابٍ مسيحيٍ على خلفيةِ حربٍ مع سوريا أكلَ الدهرُ عليها وشربَ وهضَمَها التاريخ. محاولةٌ لاستنساخِ قضيةٍ بعد ان تبيَّنَ أن تسوياتَ المنطقة ستمحي شعاراتَ التقوقع. مشوارٌ على حافة الهاوية وخارج التاريخ رأيناهُ نهارَ أمس. الجغرافيةُ نهر الكلب والأدواتُ زهرة شباب المسيحيين المُغَرَّر بِهم.

مشهدٌ ” أبوكاليبسي “. جيشٌ متأهبٌ إنما حائرٌ بين التدخل لفضِّ الفتنة وبين الفِرجةِ وتأمُّلِ حلولِ الفَرَج. من جديد فرزُ المسيحيين بين من يُرِيدُ الدخولَ الى التسويةِ الوشيكةِ وبين من يُرِيدُ التمردَ عليها. عن التسوية؟ تكريسُ إنجازاتِ محورِ المقاومة في المؤتمرِ التأسيسي القادمِ بسرعة. نزعةٌ تتحولُ إلى إرادةٍ سياسيّةٍ لجعلِ نهر الكلب حدوداً لجمهوريةٍ صغيرة، جمهوريةٌ تقتاتُ على قمحِ العنصرية وتأكلُ لحمَها بأسنانها.

في لبنان يحدثُ ان فشِلْنا في كل الإستحقاقات الديمقراطية بالرغم من الإستقرارِ الأمني. الانتخاباتُ الفرعية نموذجاً. حتى انتخابات النقابات نخرَها السوسُ الطائفيُّ وتجري محاولاتٌ لتطييرها. شكوكٌ جديةٌ تحومُ حول احتمالِ نسفِ الانتخاباتِ التشريعيةِ في أيار المقبل. فراغاتُ رئاسةِ الجمهورية في لبنان تكادُ تتحولُ الى تراثٍ وثقافةٍ واختصاصٍ يُدَرَّس في الجامعة. بالمقابل انتخاباتٌ رئاسيةٌ في سوريا رغم حربٍ شاركَ فيها الروسيُّ والأميركيُّ والتركيُّ والإيرانيُّ والإسرائيليُّ والأوروبيُّ والصينيُّ والعربيُّ كل بحسبِ روزنامته. يبدو لي ان سوريا والحالةُ هذه أكثرُ قدرةً على صيانةِ نظامها من قدرتنا نحن اللبنانيين.

الأسوأُ أن المسيحيين مثلما جرت العادة يدفعونَ من رصيدهم ثمنَ جمهوريَّةِ نهر الكلب. يخسرونَ حربَ السلام كما خسروا حربَ الحرب. أيُّ لبنان وأيُّ دور وأيُّ مستقبلٍ سيَجنونَ والعالمُ يرى كيف يتخاطبونَ ويتخابطون؟ عودةٌ الى مفرداتِ حربٍ سُمَّيَت بحربِ الإلغاء في الثمانينات ما زالت تعسُّ وتستَعِرُ بعد ثلاثٍ وثلاثينَ سنة. قدرةٌ هائلةٌ على تأبيدِ الصراعِ التافهِ على السلطة ونقلِهِ حياً يُرزَق عبرَ ثلاثةِ أجيالٍ وإبقاءِ جذوتِهِ التدميريةِ على قوَّتِها. الذين أقفلوا نهر الكلب مساءَ أمس طلابُ باكالوريا. بالكاد أكملوا سن الرشد. رشدٌ عُمريٌ معطوفٌ على مراهقةٍ سياسية.

أيُّ نظامٍ في سوريا يهدّئُ خواطرَ لبنان؟ نظامُ إخوان مسلمين أم نظام بشار الأسد؟ نظام طالباني أم علماني؟ نظام خمير حُمر؟ الميلُ الأغلب هو الإعتقاد أن هذا النظام بالذات في سوريا هو الأفضل للبنان عموماً وللمسيحيين خصوصاً. التسوية كرّستهُ والحربُ رسَّختهُ والإنتخابات الرئاسية فرضته. مواجهةُ هذا المنطق بنكءِ جراحِ الماضي وبافتعالِ بطولاتِ شدّ عَصبٍ انتخابيٍ رخيصٍ ليسَ سوى تسخيف للواقع.

انفتاحُ المسيحيين السياسي على المتغيراتِ السريعة الآتية. دخولُهم الى لبنان جديدٍ على وشكِ أن يَرسمَ اعادة تكوينه من جديد. عقدُ مصالحاتٍ ذكيةٍ مع باقي المكونات السياسية في البلاد. الإستفادةُ من نظامِ الأسد كنتيجةٍ لاستقرارٍ طويلِ الأمد في المنطقة. الإسراعُ في كل ذلك وفوق كل ذلك رفضُ جمهورياتٍ ” نهر كلبية ” أُثبِتَ استحالتها بالدمِ والنارِ والهجرةِ والإحباط.رفْضُها جملةً وتفصيلًا هو ما يجبُ القيامُ به اليوم قبل الغد. اليومَ نعم ليبقى لنا غَد.