كتب داود رمال في “الأنباء” الكويتيّة:
إن أول ترسيم للحدود اللبنانية الجنوبية تم من قبل لجنة بوليه – نيوكومب، حيث نظم تقريرا بالعمل مؤرخ بتاريخ 7 آذار 1923 وسلم حينها من قبل الحكومة الفرنسية إلى الأمم المتحدة. تضمن التقرير وصفا مفصلا لشكل الحدود بين لبنان وفلسطين بالإضافة إلى تحديد 38 نقطة حدودية بين رأس الناقورة والجسر الروماني. حصل الترسيم الثاني خلال العام 1949 من قبل لجنة عسكرية لبنانية – إسرائيلية بإشراف الأمم المتحدة سميت «لجنة الهدنة»، ولقد تمكنت هذه اللجنة من إحياء نقاط الحدود الأساسية الـ38 إضافة إلى نقاط ثانوية ووسيطة، ولقد تم تعليم هذه النقاط بشكل واضح في هذه الاتفاقية.
على أثر الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار 2000 راجعت الأمم المتحدة المستندات الموجودة لديها المتعلقة بالحدود اللبنانية الجنوبية، كما استمعت إلى وجهة نظر الحكومة اللبنانية والحكومة الاسرائيلية، فوجدت بعض التباينات في وجهتي النظر. عندها وضعت خطا أخذ بالاعتبار هذه التباينات وسمي بـ«الخط الأزرق». وتم وضعه على أساس النقاط الحدودية السابقة واعتبر كمرجع للتحقق من الانسحاب دون أن يكون له أي أثر قانوني على عملية تحديد الحدود الدولية. فجاء مطابقا تقريبا للحدود الدولية مع وجود بعض الاختلافات في بعض النقاط (13 نقطة) وضع لبنان تحفظه عليها في حينه.
في منتصف عام 2017، أطلقت إسرائيل مشروع بناء جدار إسمنتي على حدودها مع لبنان وبدأت العمل به، ويبلغ ارتفاع الجدار سبعة أمتار يضاف إلى السياج الإلكتروني والأسلاك الشائكة الموجودة فعليا بين البلدين. ويمتد هذا الجدار حسب المشروع من رأس الناقورة في أقصى جنوب لبنان إلى المنطقة الفاصلة بين مستعمرة المطلة وقرية كفركلا اللبنانية «بوابة فاطمة» ومن هناك صعودا نحو جبل الشيخ ومزارع شبعا. ولقد هددت إسرائيل بأنها ستستمر في تنفيذ مشروعها.
نتيجة لذلك تحركت الدولة اللبنانية وفي السادس من شباط 2018، عقد اجتماع في القصر الجمهوري ـ بعبدا، ضم رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء لبحث موضوع مشروع إسرائيل لبناء الجدار الإسمنتي وخاصة في النقاط موضوع الخلاف.
وتعترض الدولة اللبنانية على خط مسار الجدار ذلك بسبب وجود 13 نقطة خلافية بين الطرفين على هذا الخط الذي رسمته الأمم المتحدة والذي يعرف بالخط الأزرق. وقرر المجتمعون المباشرة بإجراء اتصالات إقليمية ودولية امنع إسرائيل من بناء هذا الجدار والذي ينتهك السيادة اللبنانية في نقاط مختلفة منه.
في السابع من شباط 2018، اجتمع المجلس الأعلى للدفاع، واعتبر أن هذا الجدار هو في حال تشييده اعتداء على الأراضي اللبنانية، وأعطى جميع التوجيهات للتصدي لهذا التعدي. وبالتالي فإن هذا العمل، أي تشييد الجدار، أدى إلى زيادة في التوتر.
في الواقع العملي، إن بناء الجدار فوق بعض النقاط والتي تعتبرها إسرائيل تقع ضمن أراضيها هو تعد إضافي ومخالف للقانون الدولي مما يدعو الدولة اللبنانية إلى تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن ضد أية أعمال عدائية وقضم أراض لبنانية. وتفعيل العمل الدبلوماسي بإجراء جميع الاتصالات الإقليمية والدولية وخاصة لدى الدول الصديقة المؤثرة لمجابهة هذا العمل العدائي.
لقد سعت إسرائيل وعمدت إلى التملص من ذكر كلمتي «الحدود الدولية» و«اتفاقية الهدنة»، رغم أن القرار الدولي رقم 1701 ينص على ذلك بوضوح وقد جاء في الفقرة الخامسة منه: «يعيد أيضا مجلس الأمن تأييده الشديد، كما أشار في جميع قراراته السابقة ذات الصلة، للسلامة الإقليمية للبنان وسيادته واستقلاله السياسي في نطاق حدوده المعترف بها دوليا، كما كرسها اتفاق الهدنة العامة الإسرائيلي ـ اللبناني في 23 آذار 1949».
ووفق ما ورد أعلاه، حاولت إسرائيل مرات عديدة إلغاء اتفاق الهدنة والقفز فوقه دون جدوى. وعلى سبيل التذكير أنه نتج عن هذه الاتفاقية لجنة سميت «لجنة الهدنة»، مازالت قائمة لغاية تاريخه وتمارس عملها بواسطة مراقبين دائمين، وهي تختلف شكلا وعملا وصلاحية عن عمل القوات الدولية الموجودة في جنوب لبنان (اليونيفل).
إن المزاعم الاسرائيلية حول بناء الجدار هي منع تسلل أي عنصر من لبنان إلى داخل الأراضي الإسرائيلية وبالتالي هو جدار لحفظ أمن شمال إسرائيل كما تدعي. أما من النواحي الأخرى غير المعلنة حاليا، والتي ظهرت إلى العلن، هي موضوع حقول النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط والعائدة للدولة اللبنانية، بعدما صرح وزير الدفاع الاسرائيلي السابق «ليبرمان» أن البلوك رقم 9 يخص المياه الاسرائيلية، وهذه وقاحة وتعدّ صارخ يستخف بعقول الجميع.
يبقى السؤال: ما علاقة ذلك بالجدار؟ المعلوم أن أي تغيير يجري باتجاه زاوية بدء بناء الجدار عند رأس الناقورة بما يعرف بالنقطة B1 (موضوع خلاف) يبدأ بخسارة متر في بدايتها وينتهي بخسارة ما مساحته مئات الكيلومترات في البحر، أي بمعنى آخر، ضرب البلوك رقم 9. لذلك جاء الترسيم البحري من عمق 5 كيلومترات خلافا لكل قواعد الترسيم التي يجب ان تبدأ من النقطة البرية، وهذا يسجل ربحا خالصا لإسرائيل.
وبالتالي السؤال المطروح هو: هل الوفود الأجنبية التي تحضر الى لبنان بعنوان عدم تمدد حرب غزة إليه تعرض وساطتها لحل هذه المسألة المفبركة؟
وللعلم إن اللجنة العسكرية اللبنانية ومن خلال دراستها للخط الأزرق ووضع النقاط عليه مع الأخذ بعين الاعتبار كافة الزوايا المرتبطة لقياس المسافة. والمساحات التي استردتها هذه اللجنة ما يقارب مئات آلاف الأمتار خلال عملها ومازالت هناك 13 نقطة موضع خلاف تم الاتفاق الشفهي على 7 منها من دون تثبيت الأمر خطيا.
في وقت تصر إسرائيل على تنفيذ مشروعها رغم حجم الاعتراضات فهي تبرر بناء الجدار بالضرورة الأمنية كونه يمنع دخول أي عنصر إلى أراضيها في حال اندلعت حرب جديدة. ويزعم العدو أن الجدار يقع بالكامل داخل أراضيه.
بالمقابل تشدد الحكومة اللبنانية على أنه اعتداء على سيادة الدولة اللبنانية خصوصا أن الجدار يقع على الخط الأزرق الذي تتحفظ لبنان على 13 نقطة فيه، من دون أي تصحيح، مما أوصل الموضوع إلى هذا الحد، ولذلك يعتبر لبنان أن بناء هذا الجدار الفاصل عند هذه النقاط الخلافية هو خرق فاضح للقرار 1701 ويجب على المجتمع الدولي التدخل للمساعدة في إيجاد الحل منعا لتطور الأوضاع إلى الأسوأ وتوتير الوضع الإقليمي.
إن دخول العنصر الأميركي على خط موضوع الخلاف عارضا وساطته في موضوع الحدود البرية امر جيد، ولكن يبدو انه أكثر تعقيدا من موضوع الخلاف البحري حول ترسيم الحدود والبلوكات النفطية. فهل تبادر واشنطن مجددا الى التسريع في ايجاد حل للحدود البرية التي هي اصل الأزمة؟ الجواب ينتظر عودة جديدة لكبير مستشاري الطاقة في البيت الأبيض آموس هوكشتاين الضليع في ملف الحدود الجنوبية