22-نوفمبر-2024

جاء في “الراي” الكويتية:

خلال المفاوضات التي جرتْ عبر الوسيط الأميركي والأمم المتحدة في شأن الترسيم البحري مع لبنان، تم التداول بطرْحٍ اسرائيلي حول ربْط الترسيم البحري بالترسيم البري، وجرى الكلام حينها عن نقطة برية تسمى B1 ورأس الناقورة تحاول تل أبيب الإمساك بها.

وحينها رَفَضَ لبنان أي ربْط بين الترسيمين، وجرت المفاوضاتُ ورُسّمت حدود لبنان البحرية وفق اتفاقٍ غير مباشر مع اسرائيل أُنجز في تشرين الأول الماضي.

وأُقفل الملف ولم يَعُد الترسيمُ البري الى الواجهة إلا في الأيام الأخيرة ربْطاً بالأحداث التي وقعتْ جنوباً، سواء على خلفية خيمة «الحزب» في مزارع شبعا المحتلة أو السياج الذي ضمّت من خلاله تل أبيب الشطر اللبناني من قرية الغجر، وعلى إيقاع خطاب الأمين العام للحزب السيد حسن وموقف الحكومة المؤيّد للترسيم البري.

ومعلوم أنه تمّ بعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 اعتمادُ خطٍّ عُرف بـ «الخط الأزرق» يمتدّ على مسافة 120 كيلومتراً بين لبنان وإسرائيل وهو ليس خطاً حدودياً بل خطّ انسحابٍ بحسب تعريف القوة الدولية العاملة في الجنوب «اليونيفيل».

لكن هذا الخط اكتسب أهميةً أكبر بعد حرب تموز 2006 والاستناد إليه كمرجعيةٍ لتحديد نقاط الفصل بين البلديْن.

فبعد حرب تموز، عمل الجيش اللبناني برعاية الأمم المتحدة على تعليم هذا الخط وتحديد أكثر من 200 نقطة على طوله (من أصل نحو 600)، لتثبيت أحقية لبنان في الحدود التي حاولت إسرائيل أكثر من مرة اختراقها كما جرى في مارون الراس عام 2007، وحينها دار اشتباكٌ بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي لمنْع خرْق الأخير الحدودَ اللبنانية.

وقام الجيش اللبناني منذ 2006 بإعادة تعليم النقاط المثبتة بين البلدين، بما شَمَلَ تقريباً نصف النقاط التي اعتُمدت عند تحديد خط الانسحاب، لكنه لم ينتهِ منها وغالباً ما كانت «اليونيفيل» تدعو الى استئناف هذه العملية ميدانياً.

وبين تثبيت النقاط الخلافية، وبين الترسيم البري، ثمة هامش سياسي وتقني أصبح في الأيام الأخيرة مدارَ سجالٍ لبناني داخلي.

اولاً، لا يزال غامضاً بالنسبة إلى معنيين في الملف الحدودي الهدفُ من استخدام كلمة ترسيم، عدا عن توقيت إثارة الملف برمّته في الوقت الحاضر. فهناك إشكالية تتعلق بمبدأ الترسيم في ذاته. وعملانياً، هناك وجهة نظر تقنية – سياسية تتحدث عن أن حدود لبنان «مرسَّمة» بينه وبين إسرائيل منذ اتفاق الهدنة عام 1949 الذي كرّس الحدود الدولية العائدة لعام 1923.

ولبنان سياسياً وعسكرياً كان يَعتبر أن جزءاً كبيراً من الخط الأزرق هو الخط الذي حدّده اتفاق الهدنة، ولا حاجة تقنياً إلى ترسيمه. لكن ما يُفترض إثارتُه، عدا عن الخروق الاسرائيلية المتكرِّرة للنقاط المثبتة، هو استمرار وجود 13 نقطة أساسية يرفض لبنان اعتبارها متنازَعاً عليها بل مناطق لبنانية صرف. وهذا الأمر لا يُعَدُّ تقنياً ترسيماً بل تحديداً للنقاط الحدودية.

ثانياً أن الخلاف المتوقَّع بين لبنان واسرائيل حول النقاط الحدودية، له أهميته في بعض النقاط الاستراتيجية، من دون التقليل من أهمية كامل النقاط المتنازَع عليها. وفي هذا الإطار تشكّل نقطة رأس الناقورة مدى حيوياً للبنان ولاسرائيل التي تحاول منذ أعوام – كما جرى خلال عملية التفاوض على الترسيم البحري – القبضَ عليها.

ويرفض لبنان قطعاً أي تَنازُلٍ عن المنطقة، علماً أنه في مرحلة التفاوض السابقة تمّ الحديث عن تَبادُل أراضٍ لم توافق عليها بيروت التي اعترضت أيضاً على مبادلةِ دفْع اسرائيل نقطة رأس الناقورة شمالاً بضعة أمتار مقابل مكاسب في البحر.

ومع فتْح ملف «الترسيم البري» ستكون لهذه النقطة أولويةً في البحث، على «الخط الأزرق» حصراً. أما موضوع الغجر ومزارع شبعا – كفرشوبا فله حسابات سياسية أخرى لأنه يتعلق بموقف حالحزب من تحديد الأرض وهويتها.

ثالثاً إن اثارة الملف تقنياً تحتاج إلى تغطية سياسية. فحين وَقّع لبنان اتفاق الترسيم البحري حصل ذلك بإشراف رئيس الجمهورية حينها العماد ميشال عون الذي كان كَلَّفَ الوزير السابق الياس بوصعب متابعة الملف مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين.

ودستورياً، فإن رئيس الجمهورية، بحسب المادة 52، هو الذي يتولّى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة.

ولذا فإن قيام حكومة تصريف الأعمال بمهام التفاوض لترسيم الحدود البرية من شأنه إثارة الخلاف من وجهة نظر المعترضين على اضطلاع هكذا حكومة بمهام رئيس الجمهورية. ومن هنا رَفَضَ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مبادرةَ الحكومة كما أعلن «ان شيء اسمه ترسيم حدود برّية، فهي مرسّمة ومحدّدة ومعترَف بها دولياً على قاعدة اتفاقية بوليه – نيوكومب سنة 1923، وقرار مجلس الأمن رقم 425 الذي ينصّ على انسحاب إسرائيل إلى الحدود الدولية».

علماً أن وزير الخارجية المحسوب على التيار مبدئياً عبدالله بوحبيب يتولى منذ اليوم الأول الكلام عن جدية الترسيم البري.

أما المرحلة الثانية المتوقَّعة فتتعلق بأمرين: الأول سياسي لجهة مدى موافقة الكتل السياسية على قيام الحكومة بالتفاوض ولو عبر الوسيط الأميركي والأمم المتحدة، من أجل الترسيم البري.

والثاني هوية الوفد الذي سيفاوض، بما أن الترسيم البحري شهد إشكالاتٍ بعدما أُبعد الجيش الذي كان يرافق ملف الترسيم البحري منذ البداية وله تحفظات على الخط الذي اعتمده لبنان رسمياً أي الخط 23 بدل الخط 29. مع أن الجيش هو الذي يتولى منذ عام 2000 القيام بعمليات التحديد والتثبت من النقاط الخلافية.

والتحضير تقنياً لملف كامل عن الحدود والنقاط المتنازَع عليها، سيأخذ في الاعتبار إشكاليات تتعلق ببلدة الغجر التي يتنازعها رأيان، واحد يؤكد أنها سورية وثانٍ أنها لبنانية، في ظل وثائق وآراء متناقضة سياسياً وعلمياً حيالها، إضافة إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

وتبقى الخلاصة أن موقف «حزب الله» لا يزال حتى الآن يظلل تعاطي لبنان مع قرار الترسيم كما قرار الحرب والسلم. والخيمتان اللتان وضعهما في مزارع شبعا وعلى تخومها، ولو كانتا لفرْض وقف اسرائيل أعمالاً في القسم الشمالي من بلدة الغجر، فإنهما شكّلتا إشارة الانطلاق الى متغيراتٍ جنوبية بدأت بالكلام عن «ترسيم» جديد برعاية واشنطن والأمم المتحدة.