جاء في “الراي” الكويتية:
7 أعوام تَطَلَّبَها إكمالُ وليد جنبلاط، دورةَ نقْل دَفة الزعامة إلى نجله تيمور، لينتقل «الرجل الذي يَقرأ ولا يُقرأ» في الحياة السياسية اللبنانية إلى ضفةِ استراحةٍ، هي أبعد من مجرّد مراجعةٍ لموقعه الـ «بوليتيكو – حزبي» في الواقع المحلي وأقرب إلى تَراجُعٍ عن «سابق تَصَوُّر وتصميم» من مَقاعد القرار إلى خطوط خلفية وكأنها «استقالة خفية» من مَشهدٍ لطالما طَبَعه وانطبع به.
أسطرٌ قليلة كانت كفيلةً بإحداث صدمة في لبنان، كونها غير مألوفة في «أدبيات السياسة» وتقاليدها العتيقة التي لا تَعرف انسحاباتٍ «طوعيةً» من لعبة السلطة ومَقاليدها، ولا في تاريخ الزعامة الجنبلاطية بجذورها الضاربة لأكثر من 300 عام والتي لم يسبق أن شهدت «تَداوُلاً» من خارج لعنة الاغتيال ولعبة القدَر التي جعلتْ – في آخر حلقاتها – وليد يحمل على كتفيه عباءة ملطخة بدم المعلّم كمال جنبلاط بعد اغتياله في العام 1977.
25 أيار 2023 سيحفر في روزنامة السياسة اللبنانية على أنه يوم أعلن وليد جنبلاط استقالته من رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، وكذلك من مجلس القيادة الحالي، ليدعو «عملاً بأحكام دستور الحزب ونظامه الداخلي» إلى مؤتمر عام انتخابي في 25 يونيو المقبل، ويكلّف أمانة السر العامة «إتمام التحضيرات اللازمة وفق الأصول وبحسب الآليات المعتمدة، وإصدار التعاميم ذات الصلة بمواعيد قبول طلبات الترشيح ومهلة الانسحاب ومختلف الشروط المتعلقة بالعملية الانتخابية وإعداد لوائح أعضاء المؤتمر العام وتوجيه الدعوات إليهم».
وجاءت هذه الخطوة المفاجئة، بعد مسارٍ مُتَدَرِّجٍ لاحتْ إشاراتُه الأولى منذ 2015 وحَكَمه بعدها تريُّث في التوريث «على الحياة» فرضتْه «أسباب قاهرة» سياسية على المستوى اللبناني العام آنذاك، إلى أن كانت مشهديةُ 19 مارس 2017 في المختارة بالذكرى 40 لاغتيال كمال جنبلاط، حين أَلبس وليد نجله تيمور، كوفية الزعامة الجنبلاطية في مستهلّ الطريق لتولّي أدوار قيادية كان بدأ «البيك» يورّط ابنه فيها تباعاً وصولاً الى قرار اختياره لخوض الانتخابات النيابية في 2018 بديلاً عنه، وهو ما تَكَرَّر في استحقاق مايو 2022.
على أن العارفين من القريبين من الدائرة الجنبلاطية، لم يتفاجأوا بما اعتبروه مساراً متدحرجاً، حَفَرَه جنبلاط الأب (مواليد 7 آب 1949) بحنكةٍ ودراية راسِماً «خريطةَ طريقٍ» مدروسة لابنه (مواليد 1982)، الشاب «غير التقليدي» الذي يجتمع في شخصيته الإرثُ الزعاماتي والحداثةُ المستمدّة من دراسته في الغرب و«روح العصر»، والذي وَجَدَ نفسه في قلب «تمرينٍ» على سنوات لِحَمْل «شعلةِ الزعامة» التي لم يكن متحمّساً لها بدايةً ولكنه سرعان ما تآلف مع ثِقْلها و«تَصالَح» مع فكرتها محاولاً التخفف من أعبائها كـ «فِعل ماضٍ» عبر جعْلها… «صالحة للمستقبل».
ورغم انكفاءِ جنبلاط عن العمل السياسي، بمعناه النيابي وبُعده الخدماتي وترْكه «الكرسي» لنجله، إلا أن ناصيةَ القرار في المفاصل ذات الصلة بالعناوين الكبرى بقيت في يده، تحت سقف ما اعتُبر حتى الأمس، توزيع أدوار ومسؤوليات بين الأب وابنه، وسط انطباعٍ بأنه لم يكن واقعياً إلا إعطاءُ مزيد من الوقت لتيمور وإكمال الجهوزية لإمساكه بكل خيوط الزعامة، نيابياً وحزبياً وشعبياً، ليتحوّل وليد جنبلاط «المرشد» و«المُلْهِم» وحامي الإرث مع… حامِله الجديد.
ومع تَوَقُّع أن يكون تيمور رئيس «التقدمي» الشهر المقبل، بحال قرَّر الترشّح وفق التقديرات شبه المؤكدة، تكثر الأسئلة حول هل مِن قطب مخفية وراء انكفاء وليد جنبلاط عن قيادة حزبه في هذا التوقيت، رغم أن ولايته كما مجلس القيادة منتيهة منذ فترة وكانت تنتظر تحديد موعد للجمعية العامة.
وفي حين لا مكان في سياق «التحريات» التي نشطت عن خلفيات نزول جنبلاط عن قيادة «التقدمي» للسيناريوهات التي سبق أن تمت إشاعتها عن خلافاتٍ بين الأب وابنه، فإن أوساطاً عليمة تضع ما حصل في إطار إعطاء دفْعٍ لعملية التطوير والتغيير وضخّ دم جديد التي أطلقها تيمور، وتأمين «انسيابية» في تعميم «الروح الجديدة» كونها المدخل لمحاكاة مستقبلٍ استشرفه وليد جنبلاط من الانتخابات النيابية الأخيرة ومزاج الشباب التواق إلى سلوكيات وعمل «من خارج اللعبة».
وإذ ذكّرت الأوساط بأن رئيس «التقدمي» كان مهّد لانكفائه بعد زيارةٍ قبل أسابيع لـ«رفيق درب» مسيرته السياسية الطويلة الرئيس نبيه بري، حين أعلن تعليقاً على موقفه من الاستحقاق الرئاسي وأزمته المستعصية «أن المستقبل لتيمور»، في إشارة إلى أن «مفتاح» القرار في الملف الرئاسي بات «في جيب» نجله، ثمة مَنْ سأل أيضاً هل تؤشر «الاندفاعة إلى الوراء» لجنبلاط إلى استشعارٍ بأن المأزق الرئاسي طويل، وهل تعني استطراداً أن الكلام في هذا الملف «من الآن وصاعداً» لن يكون إلا مع تيمور «المُختار لزعامة المختارة» والذي يرفض السير بمرشح «حزب الله» وبري، أي زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية؟ وهل من رابط بين قرار جنبلاط الأب بـ«ان يرتاح» من السياسة بعدما «استراح» لنحو 7 أعوام وبين «إعادة تأهيل» النظام السوري (المتَّهم باغتيال كمال جنبلاط) ورئيسه بشار الأسد، الذي يُعتبر وليد جنبلاط من أشد معارضيه، وقد أكد أخيراً أنه لن يزور دمشق للقائه «ولا حاجة لتيمور للتعرّف إلى بشار».
ومعلوم أن جنبلاط الأب كان حدّد لنجله في مارس 2017 «وصايا» للمستقبل بدءاً بالمصالحة «يوم عقد الراية بين العمامة البيضاء وبين العمامة المقدّسة للبطريرك مار نصرالله بطرس صفير في أغسطس 2001 هنا في المختارة، فكانت مصالحة الجبل (الدرزية – المارونية) مصالحة لبنان (…) فمهما كبرت التضحيات من أجل السلم والحوار والمصالحة، تبقى هذه التضحيات رخيصة أمام مغامرة العنف والدم أو الحرب».
وحينها توجّه جنبلاط الى تيمور «سِر رافِعَ الرأس، واحمل تراث جدّك الكبير كمال جنبلاط، واشهِر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لإسرائيل اياً كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة. واحضن (شقيقك) اصلان بيمينك وعانِق (شقيقتك) داليا بشمالك.
وعند قدوم الساعة ادفُنوا أمواتكم وانهَضوا، وسيروا قدماً فالحياة انتصار للاقوياء في نفوسهم لا للضعفاء».
يُذكر أنه منذ 1977 تحوّل وليد جنبلاط من أبرز اللاعبين في الحياة السياسية اللبنانية واعتُبر من أكثرهم حنكة وتمتُّعاً بـ «مرونة» القيام بـ«انعطافات» مفاجئة سرعان ما كانت تلقى تعاطفاً في بيئته الدرزية التي لطالما اعتبر «حمايتها» الخط البياني الذي حَكَمَ كل خطواته السياسية و«تكتيكاته» التي تعاطى معها الكثيرون في لبنان وخارجه على انها «انقلاباتٍ» او «تقلّباتٍ» صارت من «طقوس» سلوكيات الزعيم الدرزي ومقارباته للملفات في لبنان وخارجه انطلاقاً من «فكر استراتيجي» يتمتّع به ويسمح له باستشرافات غالباً ما لا «يقرأها» غيره.