كتبت “نداء الوطن”: اللبناني يئنّ. لكن إبداعه في دول الاغتراب كما في الداخل يلمع بين عثرة وأخرى. في فرنسا المهندسة المعمارية الشابة، ريبيكا دحروج، ابتكرت وصمّمت أول سترة بلاستيكية تُحاك من الزجاجات المعاد تدويرها. وفي لبنان المهندس البيئي والصناعي، زياد أبي شاكر، يقوم بتحويل أكياس البلاستيك إلى قواعد تثبيت لأنظمة الطاقة الشمسية. رغم الظروف، إصرار حديدي على تميّز أدواته البلاستيكية.البداية مع دحروج. انتقلت الفتاة المفعمة بالحماس الى فرنسا بعد انفجار 4 آب المشؤوم، وستعود وإلى وطنها حاملة العلامة التجارية الخاصة بها في عالم الموضة والأزياء. كما استهلّت حديثها لـ»نداء الوطن». كيف كَبُر الحلم إذاً؟ من طالبة هندسة معمارية في جامعة البلمند إلى مصمّمة ملابس، رحلة طويلة لم يفارقها حلم ابتكار علامة فارقة ترتكز أساساً على مبدأ إعادة التدوير.مغادرة لبنان كان قراراً نهائياً. وفي فرنسا لم تنجح في الحصول على وظيفة هناك. في حالات كثيرة، تحصيلها العلمي وخبرتها جعلا مؤهّلاتها تفوق المطلوب. لكن كون حلم الانخراط في عالم الموضة لم يبارحها، تقدّمت بطلب للمشاركة في مشروع برعاية بوتيك Sézane – Paris حيث تمّ اختيار عشر فتيات كانت هي إحداهن. المشروع الذي استمر ستة أشهر هدف إلى تعليم كيفية صنع الماركة التجارية الخاصة بكل من المتباريات وتسويقها.
وفي الختام قامت كل مشتركة بتقديم قطعة من مجموعتها. فعلامَ وقع اختيار دحروج؟ «اخترت اسم Contretemps لعلامتي التجارية أما القطعة فكانت عبارة عن سترة مصنوعة من البلاستيك المعاد تدويره تتكيّف بحسب الفصول وبحسب الحاجة إلى استعمالها، إذ يمكن إضافة أو فكّ أجزاء منها كونها موصولة بسحّابات». وللإشارة هنا، فالقماش البلاستيكي يباع في أوروبا والصين وهو يُصنع من البلاستيك المفروم والمدوّر كما يمكن إعادة تدويره مراراً وتكراراً بعد كل استعمال.
وتضيف: «اشتريت القماش من فرنسا وتوجّهت به إلى لبنان حيث قام خيّاط لبناني بتجهيز السترة، ولم يكن الهدف من هذه الخطوة تحقيق شهرة شخصية بل إقامة روابط بين الابتكار من جهة والحرفية التقليدية اللبنانية من جهة ثانية، كما رفع اسم لبنان عالياً من خلال منتج «صُنع في لبنان» ومحاولة إنقاذ مهنة تلفظ آخر أنفاسها». تمكّنت دحروج في نهاية المطاف من إحراز المركز الأول وها هي تعمل، منذ أيار 2022، وبدعم من فريق عمل مختص من قِبَل Sézane – Paris، على تطوير المزيد من المنتجات المبتكرة لإطلاقها في السوق. الفكرة بحدّ ذاتها كانت كافية لتحقيقها المرتبة الأولى لكن، كما أشارت، فإن الرسالة التي أوصلتها حين تكلّمت عن بلد مدمّر ما زال قادراً على الصمود، والصوَر التي عرضتها عن معمل خياطة مهدّم بالكامل يقوم بصناعة سترة بلاستيكية، خلقت حالة من التعاطف لدى لجنة التحكيم التي رأت بأم العين كيف تخرج من رحم الدمار إرادة ومن ألم الهزيمة عزيمة. «هدفي العودة إلى لبنان لأرى أولادي يكبرون وينمون في بلد سليم معافى. ليس المهم أين نعيش بل الأهم أن نعيش محاطين. فالحب الذي نلمسه في لبنان بين العائلة والأصحاب لا يمكن إيجاده في أي مكان آخر»، تأمل خاتمة.
طاقة شمسية… بلاستيكية
نعود إلى لبنان ونتواصل مع المهندس البيئي والصناعي وصاحب مجموعة سيدر إنفيرومنتال، زياد أبي شاكر. نسأل بداية عن صناعة تدوير البلاستيك لدينا وعن أبرز المنتجات التي تقوم المعامل بتصنيعها. زجاجات البلاستيك، كونها تحتوي على مادة البوليستر، يجري غسلها وتعقيمها ومن ثمّ فرمها في لبنان، كما يلفت. وبعدها تُصدَّر إلى الخارج لتصنيع الألياف (Fibres) التي يعاد حبكها واستخدامها في تفصيل الثياب، وعلى رأسها الثياب الرياضية لفرق كرة القدم وكرة السلة. أما غالبية المصانع الصغيرة اللبنانية، وعددها لا بأس به، فتقوم بتجميع البلاستيك الملوّن من غالونات وعبوات الشامبو وسوائل التنظيف وغيرها، ليتمّ تذويبه وتحويله إلى أوانٍ للزهور أو خراطيم للري أو حتى إلى أقفاص للخضار. وعن سؤال حول إمكانية تحويل الزجاجة البلاستيكية إلى زجاجة أخرى يجيب: «بالطبع هناك تقنيات جديدة مستخدمة لهذا الغرض إذ يمكن صنع زجاجات جديدة من البلاستيك المدوّر، وتكون صالحة لتعبئة الماء أو الشراب على أنواعه. غير أن هذه التكنولوجيا لم تصل إلى لبنان بعد».
مقاعد بلاستيكية
جيّد. لكن هل لنا أن نتخيّل يوماً الجلوس على مقعد بلاستيكي مصنوع من أكياس النفايات؟ أو أن نقوم بتركيب نظام طاقة شمسية على قاعدة بلاستيكية مصنوعة من فناجين قهوة وأكواب مياه؟ لِمَ لا؟ فالإبداع اللبناني يفاجئنا دائماً. «نقوم باستخدام البلاستيك المسمّى بـ»العوادم»، أي أكياس النايلون والأكواب والفناجين البلاستيكية، أكياس الخبز والبطاطا المقرمشة والبزورات، كذلك الأوراق التي تُلفّ بها قوالب الجبنة وسواها. وقد تمكنّا من إثبات صلاحية هذه الفئة المتنوعة من البلاستيك، التي أصرّ كثيرون أنها غير قابلة للتدوير، للاستخدام في صناعة الكثير من المواد الأخرى»، كما يشدّد أبي شاكر. وقد تمّ التعاقد مع بلدية بيت مري بالإضافة إلى تطبيق برنامج (Bin Program) داخل بيروت وفي ضواحيها (ساحة ساسين، مار مخايل، الزلقا، عين الريحانة…) والهادف لتقليص النفايات لمن يودّون القيام بفرز النفايات، فيجري جمع البلاستيك وفرزه بحسب النوع ثمّ فرمه قبل أن يخضع لعملية التكثيف. ولو كان هناك فرز من المصدر، لكانت العملية أسهل بكثير، على حدّ قوله.
…ومقاوِمة للزلازل
كيف بدأت الفكرة؟ نصغي لأبي شاكر الذي أخبرنا أنه كان من الضروري إيجاد حلّ للكمية الهائلة من العوادم التي تُستخدم يومياً في لبنان والتي ثمة مطالبة بمنع استخدامها. «لكن منعها دون إيجاد بديل أمر غير منطقي، وإذا قرّرنا انتظار تواجد البديل فالعملية قد تستغرق عشرات السنوات ويكون حينها البلاستيك قد غطى لبنان بأكمله. نحن كمجموعة صناعية وبيئية قمنا بأبحاث جدّية لإيجاد تقنيات تمكّننا من القيام بتدوير البلاستيك المستهلك يومياً. وهكذا بدأنا بصناعة الألواح والقضبان (Profiles) مستخدمين نفس قوالب الخشب إضافة إلى قواعد للطاقة الشمسية»، كما يشرح. أما التقنية المتّبعة فهي تعتمد على عملية التكثيف بحيث يوضع حوالى 100 ألف كيس بلاستيكي لتبدأ بعدها مرحلة التركيز المكثّف، علماً أن للمعمل القدرة على تحويل مليون وخمسمائة ألف كيس شهرياً من خلال هذه التقنية.
لقضبان وألواح البلاستيك ميزات هامة. فاللوح البلاستيكي يخدم لأكثر من 400 سنة بينما يصيب اللوح الخشبي التآكل بعد حوالى 20 سنة. «الإقبال كثيف على قواعد الطاقة الشمسية البلاستيكية لأنها أرخص بنسبة 30% من الحديد وتخدم لمدّة أطول كما أن وزنها أخفّ. هذا مع الإشارة إلى أنها مكفولة لمدة 50 سنة. وقد اكتشفنا أيضاً أنها مقاومة للهزّات الأرضية كون البلاستيك مطاطياً بعكس القواعد الحديدية التي يمكن أن تتعرّض للكسر عند الاهتزاز». الصعوبة الوحيدة تتمثّل بكمية الطاقة الحرارية الكبيرة التي تتطلبها عملية الإنتاج والتدوير. وفي ما خص التنسيق مع الجهات الرسمية، ورغم أنها على بيّنة من هذه التقنية، غير أن الأوضاع المادية في البلديات والوزارات والقطاع العام لا تسمح بأي تعاون حالياً. «نتكلّم هنا عن إنتاج صناعي والصناعة لا تزدهر بدون المال. هذا دون أن ننسى أن ملف النفايات هو في رأس قائمة ملفات الفساد الشائكة والعالقة التي تحول دون إيجاد سياسات وحلول منظّمة لإعادة التدوير في لبنان»، كما ينهي أبي شاكر.
هي مبادرات شخصية كالعادة في دولة مصمّمة على رمي كل ما من شأنه التخطيط للمستقبل في الأدراج. لكن من يدري. فقد يكون البلاستيك وإعادة تدويره دليلاً، يوماً ما، لإعادة تدوير الكثير من الأفكار والأفعال التي أوصلتنا إلى هذا الدرك.