16-مايو-2024

في 16 أيّار المقبل، من المفترض أن تنعقد جلسة الاستجواب التي حددتها القاضية الفرنسيّة أود بوروسي لحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. وهذه المرّة، طلبت بوروسي حضور الحاكم إلى عرينها وموطنها، في العاصمة الفرنسيّة باريس، بدل استجوابه في عرينه في قاعات قصر العدل في بيروت، كما جرى في شهر آذار الماضي (راجع المدن).

جلسة باريس، إن حضرها الحاكم، ستكون مختلفة تمامًا عن جلسة بيروت.. وسواء حضر أو لم يحضر، سيختلف كل شيء بالنسبة لرياض سلامة، بعد موعد جلسة باريس.

الجلسة التي سيختلف بعدها كلّ شيء
هذه المرّة، يعلم رياض سلامة جيّدًا أن بوروسي ستكون سيّدة قاعة الاستجواب في باريس، بخلاف ما جرى في جلسات استجواب بيروت الشهر الماضي، التي اكتفت فيها وفود التحقيق الأوروبيّة بالاستماع، فيما وجّه قاضي التحقيق اللبناني شربل أبي سمرا أسئلة الأوروبيين لرياض سلامة.

هذه المرّة، في باريس، لن تقدّم بوروسي السيجار و”المعمول” لسلامة، كما فعل اللبنانيون في جلسة قصر عدل بيروت، ولن تبلغه مسبقًا بمضامين الأسئلة التي ستوجّه إليه. وهي حتمًا لن تسرّب لوسائل الإعلام بعض الأخبار الهزيلة والمضحكة، عن ذكاء سلامة وسرعة بديهته خلال الاستجواب، كما فعلت “المصادر القضائيّة اللبنانيّة” بعد جلسة الاستجواب في بيروت. كل هذا الهرج والمرج لن يحصل في باريس.

هناك، في ملعبها، هي من سيسأل، وهي من يحاور.. وهي من يقرّر ما سيحصل لسلامة بعدها! وما سيحصل بعدها بات معروفًا وواضحًا. إذا كان مروان خير الدين قد تلقّى لائحة الاتهام الرسميّة، ومُنع من مغادرة فرنسا، لتسهيله عمليّات الاختلاس التي قام بها سلامة، فمصير سلامة لن يكون أفضل أبدًا.

والعارفون بآليّات عمل القضاء الفرنسي، يدركون جيّدًا أن السبب الوحيد الذي يدفع بوروسي لاستدعاء سلامة إلى معقلها، بعد استجوابه في بيروت، هو إبلاغه وجاهيًا بالجملة المفتاح للادعاء عليه: “أسند إليك لائحة الاتهام التالية..” لتعدّد من بعدها لائحة الموبقات التي يحفل بها ملف سلامة، من اختلاس وتبييض أموال وإثراء غير مشروع وتزوير وتهرّب ضريبي وغيرها.

في حالة سلامة، قد لا تقتصر المسألة على منع السفر بعد التوقيف والإفراج بكفالة ماليّة، كما حصل مع خير الدين. بل يمكن أن تقرّر بوريسي، وهذا محتمل جدًا، أن تبقي سلامة في زنزانة باريسيّة، نظرًا لضخامة حجم الملف وخطورة التهم الموجّهة إليه.

وللمفارقة المضحكة، ستصبح جنسيّة سلامة الفرنسيّة لعنةً عليه في هذا الملف، بعدما حصل على هذه الجنسيّة في الماضي من باب الوجاهة والتكريم. ففي النتيجة، سيكون سلامة مجرّد مواطن فرنسي معتقل في سجن فرنسي، أو ممنوع من السفر على أرض فرنسيّة، على خلفيّة جرائم تبييض أموال جرت في فرنسا نفسها.

سلامة يستنجد بغادة عون!
يدرك رياض سلامة أنّه إذا غادر لبنان إلى باريس في 16 أيّار المقبل، فهو لن يعود، إمّا بفعل توقيفه هناك، أو بفعل إطلاق سراحه بموجب منع سفر، كما جرى مع مروان خير الدين. ولهذا السبب بالتحديد، بدأ فريقه القانوني بالتحضير لمجموعة الحجج التي تسمح له بالتهرّب من حضور استجواب القاضية أود بوروسي.

الحجّة الأولى والأكثر ركاكة، ترتبط بما يعتبره فريق الدفاع مخالفات قانونيّة ارتكبتها القاضية الفرنسية، ومنها استجوابه كشاهد قبل الادعاء عليه، وهو ما يتعارض -بنظر فريق الدفاع- مع قانون الإجراءات الفرنسي الذي يمنع استجواب الأفراد كشهود، في حال الاشتباه بتورّطهم بأعمال جرميّة تستدعي الادعاء عليهم لاحقًا في الملف نفسه.

إلا أنّ العديد من المصادر القانونيّة تشير إلى هشاشة هذه الحجّة، لكون القاضية الفرنسيّة اكتفت خلال المرحلة الماضية باتباع الاجراءات الطبيعيّة والمعتادة جدًا، التي تفرض استجواب أصحاب العلاقة كمعنيين بالملف، قبل تثبيت صفتهم كمدعى عليهم بموجب لوائح اتهام أو شهود في مرحلة المحاكمة. هذا تحديدًا ما يجري في العادة، ومجرّد اللجوء إلى هذه الحجّة الضعيفة يشير إلى حراجة موقف فريق الدفاع القانوني.

أمّا الحجّة الثانية، ويا لسخريّة القدر، فتتعلّق بإشارة منع السفر الصادر عن القاضية غادة عون، التي يتذرّع بها فريق الدفاع اليوم للمطالبة بعدم حضور استجواب القاضية أود بوروسي في باريس. وتكمن المفارقة المضحكة هنا في أنّ سلامة عاد ليستجير ويستنجد بقرار القاضية اللبنانيّة، التي لطالما تجاهل قراراتها ورفض الامتثال لطلبات الاستجواب الصادرة عنها، للفرار من استجواب القاضية الفرنسيّة. أمّا الأكثر غرابة هنا، فهو أنّ سلامة بات مصرًّا على احترام إشارة منع السفر الصادرة عن عون، حتّى بعد أن سقطت الإشارة بمرور الزمن منذ أكثر سنة!

في جميع الحالات، تشير مصادر قضائيّة متابعة للملف إلى أنّ القاضية غادة عون تلقّفت هذه الحيلة سريعًا، ما سيدفعها إلى رفع أي إشارة أو قرار يمكن أن يتذرّع به سلامة للهروب من التحقيق الفرنسي، وفي مقدمها قرار منع السفر. باختصار، بعد أيّام قليلة، قد لا تكون هذه الحجّة صالحة أبدًا.

اعترافات سلامة أوقعت بخير الدين
على هامش النقاشات المتعلّقة باستجواب سلامة في 16 أيّار المقبل، يكثر الحديث اليوم عن التسريبات الجديدة المتعلّقة بالتحقيقات مع المصرفي مروان خير الدين.

آخر هذه التسريبات، تتحدّث عن مواجهة خير الدين باعترافات رياض سلامة نفسه، الذي أكّد بنفسه في وقت سابق أن الأموال التي تم تحريكها بإسم رجا سلامة في بنك الموارد تعود للحاكم نفسه. أي بمعنى آخر، أكّد رياض سلامة أنّ بنك الموارد ساهم في إخفاء صاحب الحق الاقتصادي من الأموال الموجودة لديه، وهو ما يمكن اعتباره مساهمة في تبييض الأموال إذا أخذنا بالاعتبار عدم مشروعيّتها.

من ناحيته، برّر محامي رياض سلامة فتح الحساب بإسم رجا سلامة بعدم قدرة الحاكم على ممارسة النشاط الاستثماري كأي شخص طبيعي، ما دفعه إلى تسليم هذه السيولة كأمانة لشقيقه من أجل استثمارها. إلا أنّ هذا التبرير في المقابل، وضع بنك الموارد في موقع المسؤوليّة، لعدم تطبيقه معايير الامتثال ومكافحة تبييض الأموال وكشف أصحاب الحق الاقتصادي من الحساب بين عامي 1993 و2019، أي على مدى أكثر من 26 سنة متتالية.

من جهته، حاول خير الدين تبرير “تكاثر” الدولارات في الحساب، الذي ارتفع رصيده بشكل غامض من 15 مليون دولار إلى 150 مليون دولار خلال السنوات الـ26. وهنا تحدّث خير الدين عن استثمار هذه الأموال في خدمات خاصّة مصرفيّة قدّمها بنك الموارد لرجا سلامة، من دون أن يقدّم تفسيرات مقنعة للعوائد الخياليّة التي جرى تحقيقها خلال هذه الفترة الزمنيّة. مع الإشارة إلى أنّ “تكاثر” الدولارات على هذا النحو يعني أنّ رجا سلامة كان يحقق عوائد بمتوسّط يصل إلى حدود 35% سنويًا، ما يمثّل نسبة مرتفعة لا تتلاءم مع فوائد أو أرباح المنتجات المصرفيّة التقليديّة. أمّا مضبطة الاتهام الأهم، فكانت تحديدًا تبادل المصالح بين الحاكم ومروان خير الدين، التي جاءت عمليّات تبييض أموال شركة فوري كجزء طبيعي (راجع المدن).

في النتيجة، من المفترض أن تبيّن الأيّام التالية مدى استعداد حاكم مصرف لبنان لحضور جلسة الاستجواب المقبلة في باريس، وهو ما سيحدد تلقائيًا مصير الحاكم بعدها. فإذا تلكّأ الحاكم عن حضور الجلسة، فمن المتوقّع أن تعلن القاضية من بعدها الادعاء على سلامة بغيابه، وهو ما سيزيد من قسوة العقوبة النهائيّة عليه.

إلا أنّ الإشكاليّة الأساسيّة ستبقى هنا مصير الحاكميّة، بعد أن يصبح الحاكم نفسه مدّعى عليه في دولة أوروبيّة. وهذه المشكلة، ستكون أكبر حكمًا إذا ذهب سلامة إلى باريس.. ولم يعد.