كتب حنا صالح في “الشرق الأوسط”:
منذ بدء الانهيار المالي قبل نحوٍ من أربع سنوات، يحمل كل يوم يمر على لبنان، المزيد من الوجع والمزيد من المؤشرات عن تعاظم كرة الانهيارات، واتساع التشوه الاقتصادي وتفاقم العوز. حتى إن حالات الانتحار التي فاقمها اليأس لم تعد تترك التأثير الذي تستحقه. لكن ما حمله يوم 23 الحالي من مواقف صادمة أعلنتها بعثة صندوق النقد الدولي، وضعت اللبنانيين أمام الحائط المسدود أكثر من أي وقت مضى: «لبنان عند مفترق طرقٍ خطير، ودون إصلاحات سريعة ستغرق البلاد في أزمة لا نهاية لها»!
بيان البعثة بدا مضبطة اتهام للسلطة اللبنانية التي أخلت عمداً بكل شروط «الاتفاق المبدئي» مع صندوق النقد الذي رسم خطة لبدء نهوض لبنان. رئيس البعثة أرنستو راميريز ريغو لم يجامل ولم يهادن، بل حذّر من خطورة نهج الترقيع وتعليق خطوات الإصلاح الضرورية، متخوفاً من أن ذلك سيعني هبوطاً مستمراً في سعر صرف الليرة، وتضخم مفرط، وتسارع الدولرة، وتزايد هجرة العمال المهرة، ما سيقوض آفاق النمو!
ما قالته البعثة الدولية بالغ الخطورة، سداه ولحمته، إن المتسلطين يمنعون أي خطوة إصلاحية، ويتنكرون لكل تعهداتهم، ويمعنون بارتهان اللبنانيين وإبقاء لبنان في الجحيم. ورأت البعثة في قانون السرية المصرفية التفافاً على الإصلاح، وانحرافاً عن الأهداف المتوخاة، فيما مشروع الـ«كبيتال كونترول» المطروح لا يؤمن الحفاظ على حقوق المودعين، أما هيكلة المصارف فيبدو أنها عنوان مؤجل! وذهبت التحذيرات أبعد، مع خطر تآكل الاحتياطات التي ستُفقد بدءاً من سبتمبر (أيلول)، ومعها يكون لبنان قد اقترب من مرحلة الفوضى الاجتماعية، وقد لا يستطيع «تمديد اتفاقات دعم رواتب القوى العسكرية والأمنية»!
كل ما نص عليه «الاتفاق المبدئي»، تم تفريغه من محتواه الإيجابي. كل المعطيات موجودة لدى الصندوق، فمحور العمل الحكومي والبرلماني كان السعي لإصدار قوانين عفو عن الجرائم المالية، وحماية الكارتل المصرفي السياسي الميليشياوي من أي ملاحقة قضائية. مع منح الأولوية لمخطط شطب القسم الأكبر بعد «الهيركات» اللاقانوني الذي ذوّب 40 مليار دولار من الودائع تقاضاها المودعون على أسعار صرف للدولار أعلاها 15 ألفاً، ليسددوا الرسوم والضرائب وتكلفة الحياة اليومية على سعر صرفٍ تجاوز الـ100 ألف ليرة! لكن حتى تكون الأمور في نصابها ماذا حمل «الاتفاق المبدئي»؟ وكيف تم ترتيب إفراغه من محتواه؟ وهل كانت هناك خطة مبرمجة لنسف التعامل مع صندوق النقد الدولي، وتالياً مع المجتمع الدولي؟
في السادس من أبريل (نيسان) 2022 توصلت السلطة اللبنانية إلى الاتفاق على مستوى موظفين، ينص على مساعدة بـ3 مليارات دولار لدعم اعتزام لبنان النهوض من الانهيار الاقتصادي، ويرسم طريق خروج من الكارثة التي صنفها البنك الدولي كواحدة من أكبر 3 كوارث ضربت العالم خلال آخر 150 سنة.
استغرق الوصول إلى هذا الاتفاق بضعة أشهر. يومها وصفه رئيس الحكومة ميقاتي بأنه «تأشيرة للدول المانحة أن تبدأ بالتعاون مع لبنان لإعادته إلى الخارطة الطبيعية المالية العالمية». ولتأكيد الاهتمام بالكوة التي فُتحت للخروج بلبنان وأهله من النفق المظلم الذي دُفِعَ إليه، أكد بيان مشترك ممهور بتوقيعي عون وميقاتي: «الالتزام الكامل باستمرار التعاون مع صندوق النقد الدولي من أجل إخراج لبنان من كبوته ووضعه على سكة التعافي والحل»!
توازياً، أوضحت بعثة الصندوق أن «الاتفاق المبدئي» مساعدة تندرج في «إطار خطة السلطات الإصلاحية لإعادة النمو والاستقرار المالي». كما نبهت، آنذاك، إلى حجم المخاطر بعدما «خسرت الليرة 90 في المائة من قيمتها، وبات أربعة من كل خمسة لبنانيين يعيشون تحت خط الفقر»! وبات معلوماً أن الاتفاق ليتحول إلى واقع يتطلب إقرار برنامج «لإعادة هيكلة الدين مع مشاركة كافية من الدائنين لاستعادة القدرة على سداده وسدِّ فجوات التمويل».
ومنذ ذلك التاريخ جرى اعتماد كل ما هو مغاير بالكامل لمضمون الاتفاق. عمل البرلمان المنقسم شكلاً بين تيارين كبيرين: تيار المصارف وتيار دويلة «حزب الله»، على الحيلولة دون الاعتراف بالفجوة المالية، والمضي في سياسة تخسير المودعين أكثر من 80 في المائة من قيمة ودائعهم، وفرض إدارة مالية خطيرة عبر تعاميم المصرف المركزي، فتآكلت أكثر فأكثر القدرة الشرائية، لتختفي الطبقة الوسطى مع اتساع الفقر عندما اتسع العوز ليطال أكثر من 83 في المائة من اللبنانيين! لم يعترف أهل الحل والربط بحجم الخسائر المالية التي يتكبدها المصرف المركزي والمصارف التجارية، فانتفى أي جهد صادقٍ للمعالجة، يقوم على تحميل المصارف وكبار المودعين هذه الخسائر، كما يشترط صندوق النقد.
اللافت أنهم باشروا باكراً الحديث عن «ودائع مؤهلة» وودائع «غير مؤهلة»، في حين أن المطلوب أمر آخر يفترض وضع خطٍ فاصلٍ بين ودائع مشروعة وأخرى غير مشروعة متأتية من تبييض الأموال والتهريب والإثراء غير المشروع وخلاف ذلك. لكن بالعمق هناك خلفية سياسية خلف مخطط تجويف مشاريع الإصلاح، والمضي في تنفيذ موجبات الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد. فالأكيد أن التحالف المافياوي تنبه باكراً إلى الخطورة على مصالحه وحصصه، فعمد البعض إلى العرقلة التشريعية، كما الرهان على إمكانية تعديل الشروط، وهذا ما حصل خلال زيارات رسمية إلى واشنطن حصدت الفشل الكامل!
لكن الأخطر ربما تمثل في تحالف موضوعي للمتضررين، جمع جهات مصرفية وأخرى فاعلة في نظام المحاصصة الزبائني مع «حزب الله»، ما قوَّض موجبات المنحى الإصلاحي. فالأكيد لم يستسغ «حزب الله» فكرة أنه مطالب بالخروج من المرفأ والمطار وتسليم المنافذ البرية وما تعنيه، ومخططه الإمساك أكثر بمفاصل البلد لاستكمال استتباعه! والأكيد فإن رئيس مجلس النواب، الذي فرض سيطرة فريقه على وزارة المال فبات وزيره للمالية يمتلك، نيابة عن «الثنائي المذهبي» حق الفيتو على الدولة، هاله أنَّ صندوق النقد يشترط اعتماد الشفافية المالية والتدقيق في الواردات والنفقات، وإخضاع كل عمليات المالية لرقابة لصيقة من جانبه… إلى جهات أخرى متضررة على ما أظهرته نقاشات البرلمان!
مع هذه الطبقة السياسية يستحيل الرهان على الإصلاح والإنقاذ. من برمج المنهبة والارتهان وخطوات الخراب ليس جهة مؤتمنة على الإصلاح والإنقاذ وإعادة الإعمار. هنا ينبغي التوقف عند المنحى المختلف والواضح الذي عبّر عنه حسن نصرالله مستبقاً موقف البعثة الدولية بـ24 ساعة فقط، عندما امتدح يوم 22 الحالي، الذراع المالية لحزبه، «المؤسسة المهمة والعظيمة، التي نمت بشكلٍ طبيعي بأموال جمهور (حزب الله) ممن أقفلت حساباتهم وأخرجت أموالهم من البنوك، وذهبت إلى «القرض الحسن»… ليعلن «نحن نحب أن نخدم الناس»! لقد عرف السبب فبطل العجب، والكارت الأحمر مرفوع الآن بوجه غالبية اللبنانيين!