24-نوفمبر-2024

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

إذا كانت عصابات تجارة المخدّرات في شمال منطقة البقاع ولا سيّما في منطقة حورتعلا، قد وجدت نفسها ضمن بيئة حامية عشية المداهمات التي نفّذها الجيش اللبناني للقبض على أفرادها ورؤسائها، فحوّلوا البلدة ساحة معركة سقط خلالها ثلاثة عسكريين غدراً، فإنّ سائر المجتمع اللبناني هو البيئة التي يعتمد عليها الجيش اللبناني لتنفيذ كل مهمة لإجتثاث هذه العصابات، وقد أظهر مزيداً من التمسّك بهذه الشرعية في مهمّته الأخيرة لملاحقة عصابة، لم تقتصر جريمتها على قتل العسكريين الثلاثة، إنّما هي متمادية بجرائمها في تجارة المخدّرات وترويجها في صفوف الشباب، مخلّفة التداعيات في المجتمعات عموماً، وليس فقط في صفوف من يتعاطونها.

وعليه، بدا الحزن أكبر من أن يحتمل على شهداء الجيش الثلاثة، حيث تبيّن أنّ جميعهم من حصّة منطقة البقاع، إثنان منهم من منطقة قضاء زحلة تحديداً. وبينما كانت عائلة الشهيد بول الجردي تودّعه للمرة الأخيرة مع أبناء بلدته تعلبايا، باشر أصدقاء الشهيد جورج أبو شعيا في أبلح برفع صورة ضخمة له في باحة كنيسة مار جرجس، وقد زيّنوها بالأشرطة البيض لإستقبال عريس لم يتجاوز عمره 22 سنة، حيث ستقام مراسم دفنه صباح اليوم السبت.

من وسط الجموع التي إحتشدت لإلقاء النظرة الأخيرة على الشهيد بول، إرتفعت صرخات «آخ» صاخبة أكثر من مرّة، ليتبيّن أنّها صرخات زملاء له في فرع مخابرات الجيش. ومع أنّ الجيش عادة «يحمل الدم على كفّه» كما يقال في أي عملية ينفّذها بأي منطقة، إلاّ أنّهم لم يتوقّعوا لرفيقهم أن يعود محمولاً على أكتافهم من هذه العملية. فالملاحقات لم تكن لعناصر تكفيرية يسهل عليها القتل، وحتى باسم الدين أحياناً، بل المواجهة كانت بين الخير والشّر، بين تجار مخدّرات وعسكر. وفي القصص البوليسية تحديداً، ينتصر الخير على الشر، ويقبض العسكر على تاجر المخدرات. وبإنتصاره تسلم المجتمعات ويسودها الأمان.

في المفهوم العسكري ليس الكمين الذي نصب لعناصر مخابرات الجيش في حورتعلا خسارة للمعركة، خصوصاً أنّ الجيش اللبناني مستمرّ بعملياته منذ أشهر في هذه المنطقة، إلا أنّ سفك دماء الشهداء الثلاثة، إذا ما تمّ التغاضي عنه يحمل التهديدات لكلّ المجتمع اللبناني. وهو بالنسبة لهذا المجتمع رسّخ الهوّة التي تفصل هذه المجتمعات عن محافظة بعلبك تحديداً، بما تحويه من بؤر للعصابات، إلى حدّ سماع حديث يدور بين المشاركين في وداع الشهيد الجردي، تدعو إلى عزل هذه المنطقة عن البقاع عموماً وعن سائر أنحاء لبنان، وبذلك كما قالوا يرتاح لبنان ولا يعود يسقط للعسكريين شهداء.

بدا الحاضرون متعطّشين لأيّ خبر يشفي غليلهم في المقابل، وقد تداولوا في ما بينهم عن قيام الجيش بدهس منزل المطلوب «رقم واحد» في هذه العملية وهدمه كلّياً. وبحسب ما نقل عن بعضهم، بأنّ المطلوب من آل مصري لم يكن في المنزل بينما كانت مخابرات الجيش تحاول إقتحامه، وقد باغت العناصر مع أفراد عصابته من الخلف، وهو ما أدّى الى مقتل العسكريين الثلاثة. رواية كافية لتنهال الشتائم على أنواعها على القاتلين، ولكنّها شتائم لا تطفئ النار في قلب والد أو والدة أو حتى شقيق وشقيقة، وهو ما ترجمته حالة والدة الشهيد بول، وقد بدت بإحتضانها رفاقه العسكريين كمن تبحث عن ملامح إبنها ورائحته فيهم.

الحزن في أبلح

تتكرّر المشاهد في أبلح، وإن كان حجم الغضب هنا أكبر من الحزن، حيث كان طريق عام البلدة قد قطع بالإطارات المشتعلة عشية تناقل الخبر حول إستشهاد أبو شعيا. والمعروف عن أبلح أنّها البلدة التي تحتضن الجيش اللبناني، حيث يكاد يكون في كلّ عائلة عنصر أو أكثر في الجيش، وبعض هؤلاء إستشهدوا سابقاً أيضاً في عمليات مشابهة. وعليه تبدو أبلح كالوجه المناقض لحورتعلا أو بريتال أو غيرها من البلدات التي إتّخذت فيها العصابات بؤراً لها. وكان طبيعياً أن يترك غدر العسكريين الثلاثة إنطباعات بإنتهاك كراماتهم مع كرامة المؤسسة العسكرية. وقد عبّر الشباب خصوصاً عن بعض هذا الغضب عبر وسائل التواصل الإجتماعي، فقال أحدهم: «عندما ترى رفيقك مات لأنّ هناك أولاد حرام يريدون أن يعيشوا بمزرعة وحدهم، إعرف إنه لم يعد هناك بلد ولا دولة».

ما كتبه صديق الشهيد أبو شعيا، بدا كلسان حال كل من حزن على شهداء الجيش الثلاثة، إلا أنّ حزن هؤلاء مهما كبر، ينحني أمام حزن عائلات أبو شعيا والجردي وشريف الذين فقدوا أبناءهم وهم في ريعان العمر. بالنسبة لهم المستقبل يموت عندما يقتل الشباب مع طموحاتهم. فالمجرمون لم يقتلوا بول الجردي الخلوق كما يصفه كل عارفيه، بل أنهوا حلمه وطموحاته التي حاول أن يحقّقها من خلال إلتحاقه بالدراسة بينما كان يواظب في وظيفته. وهو بالطبع كان يطمح لتحسين مستوى معيشته التي تراجعت خصوصاً بسبب الأزمة الإقتصادية. وجورج كان بسمة عائلته، التي إكتشفت أنّها لم تعد لديها سوى صورته الضخمة التي رفعت بباحة وداعه الأخير. فهو كما كتب أحدهم «قد ذهب مع ثلّة من رفاقه ضحيّة الغدر. شهادتهم لم تكن ضدّ العدو أو بساحات الوغى. استشهدوا بنيران الحقد والضغينة، وقد غدر بهم شياطين النصب والاغتصاب والسرقة».