23-نوفمبر-2024

كتب ميشال الشماعي في “نداء الوطن”: 

يعمل القاضي البيطار بملفّ أمني – عدلي يمسّ وجوديّة الدّولة اللبنانيّة بالكامل. فمَن استهدف مرفأ بيروت استهدفه بهدف السيطرة على لبنان بالكامل. أو فلنقل إنّ مَن وفَّر السّبب لاستهداف مرفأ بيروت هو الذي يسعى لتأمين مقوّمات سيطرته المطلقة على الدّولة اللبنانيّة بالكامل. وما لا يجرؤ أحد على الاعتراف به راهناً هو ما سيكشفه القرار الإتّهامي. لذلك، ما من مصلحة في تسهيل مهام القاضي البيطار، بل العكس تماماً بات الهدف تحويل قضيّة تفجير مرفأ بيروت إلى قضاء وقدر؛ ورحم الربّ أرواح الشهداء الذين سقطوا كلّهم، وأعان المتضرّرين جسديّاً وماديّاً ومعنويّاً.

هذا هدف دويتّو المنظمة والمنظومة في لبنان. فبنهاية المطاف لقد دخل هذا الدويتّو في بازار التسويات الدّوليّة. وهو يفاوض المجتمع الدّولي ليحافظ على استمراره. وما حصل في ملفّ الترسيم هو الإثبات. وتستمرّ هذه المقايضات. وليس آخرها الإفراج الأخير عن الموقوف الأميركي محمد زياد العوف، وسفره قبل إصدار قرار منع السفر. على ما يبدو أنّ هنالك مسارين دوليّين يعمل وفقهما المجتمع الدّولي مع مايسترو هذا الدويتّو، أي «منظمة حزب الله» وهما: المسار الأوروبي الذي تجلّى في الوفد القضائي الذي أتى للتحقيق في قضايا الفساد المالي، والمسار الأميركي الذي يفاوض بالمباشر على إيقاع هتافات شارع الثنائي: «الموت لأمريكا».

وما بات واضحاً ممّا يستجدّ في لبنان أنّ المجتمع الدّولي سيعيد ترتيب المنطقة انطلاقاً من البوّابة اللبنانيّة بعدما لم يتمكّن من الدّخول من البوّابة السوريّة، لأنّ لبنان يُعتَبَر الخاصرة الرّخوة التي شرّعت هذه المنظومة أبوابها بمباركة المنظمة أمام التّدويل الصامت. وعلى ما يبدو أنّ مناهضي التّدويل هم أنفسهم الذين يستجلبونه في محاولة منهم لضمان وجوديّتهم واستمراريّتهم. وهدف الدويتّو الحاكم سيكون في هذه المرحلة كيفيّة دفع ثمن استمراره في الساحة السياسيّة من البوّابة الدّوليّة بالذات.

وسيبحث تحالف المافيا والميليشيا مع المجتمع الدّولي الطرائق كافّة. ومَن يتعامل مع الأميركي يعلم جيّداً أنّ أبرز أهدافه يكمن في كيفيّة السيطرة على سوق النّقد في العالم ليبقى متحكّماً بالاقتصاد، لأنّ النهج الجديد الذي يؤمن به هو الحرب الاقتصاديّة بالمباشر والحرب الميدانيّة العسكريّة بالواسطة. وهذا ما يجسّده تماماً بالعقوبات التي يجترح لها قوانين في الكونغرس من ماغنتسكي وهلمّ جرّا، وبدعمه أوكرانيا التي تخوض الحرب عنه مع روسيا بشكل غير مباشر.

من هذا المنطلق، إن لم يدفع هؤلاء كلّهم ثرواتهم غير الشرعيّة فسيكون مصيرهم أسود أكثر ممّا يتوقّعون. وإن ظنّ هؤلاء أنّ تدمير هيكل الدّولة اللبنانيّة على رؤوس اللبنانيّين جميعهم سيعطيهم ورقة تفاوضيّة إضافيّة، فلعمري هم مخطئون جدّاً لأنّ إعادة بناء لبنان الجديد باتت مسألة حتميّة. وإن نجحوا بدفع الأثمان التي ستطلب منهم فلن يكون دورهم أكثر من حرس حدود لمَن ادّعوا أكثر من ربع قرن محاربتهم، أي العدوّ الإسرائيلي. وستكون الشركات النفطيّة التي ستعمل وفق توجيهات الدّول الكبرى مَن سيحكم لبنان الجديد في المرحلة القادمة. وسيقتصر دور هؤلاء، كما كتبنا في مقالات سابقة، على الاستفادة من شركات الخدمات المرافقة لينعموا هم بالفتات اليسير، وليشكروا مَن دعوا عليه بالموت طول أعمارهم ليل نهار.

ما سنعيشه في القليل القادم من الأيّام هو نتيجة حتميّة لتحالف المافيا – والميليشيا الذي صدر القرار بإسقاطه. وهو سيسعى حتماً لإسقاط الدّولة قبل إسقاطه عسى أن «ينفذ بريشه». لكن في الحالتين لن يتمكّن من ذلك. حذارِ أن تنتقل مجزرة الرابع من آب القضائيّة إلى المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة. هذه المؤسّسات التي ما زالت حتّى الساعة ضمانة استمرار الشرعيّة في لبنان. ولا يعتقدنَّ أحد أنّه بإسقاطها سيسلم هو وحده.

الصراع اليوم ليس على لبنان وحسب، بل كما ذكرت آنفاً على ترسيم المنطقة بالكامل انطلاقاً من البوّابة اللبنانيّة. والهدف الدّولي الرئيس هو إبعاد أيّ نفوذ غير أميركي – أوروبي عن شرق المتوسّط. أعني هنا النفوذ الروسي – الإيراني وحتّى الصيني. على اللبنانيّين اليوم الصمود أوّلاً، وعدم التراجع عن مواجهة هذه الطغمة العميلة للنّاس كلّهم وحتّى للشيطان بنفسه ثانياً. وإن لم نَحمل حسّ المسؤوليّة المرهف في هذه المرحلة، والذي يتجذّر في أعماق الشهداء القديسين الذين سبقونا، وإن لم نزرعه في وجدان الأجيال الطالعة، وإن لم يضطلع سياسيّونا وقادتنا بقلق مسؤوليّتهم تجاه لبنان الحرّيّة وشعبه وتاريخه، وإن لم يتحلّوا بإرادة ورؤية المسؤوليّة بمسؤوليّة، فلن نستحقّ لبنان الجديد، لأنّه حينها سنصبح حتماً مُلحَقِينَ به، بعدما كنّا مُلحِقِينَ بلبنان الكبير.