جاء في “الراي”:
يحتار المرء كيف يصف حال اللبنانيين مع موسم الأعياد. هل يحكي عن معاناة الأسر في تأمين لعبة العيد لصغارهم أم يصف زحمة المولات الخانقة لشراء هدايا العيد؟ هل يتحدث عن حجوزات الطائرات والفنادق و«عجقة» العائدين لتمضية العطلة في ربوع أجمل بلد أم عن يأس الشباب المُهاجِر من بلده وعدم رغبته بالعودة حتى في الأعياد؟ هل يصف عبثية نواب الأمة في انتخاب رئيس للجمهورية أم يتحدث عن انهماكهم بالتحضير للأعياد وتباريهم في مَن يسافر الى الوجهة الأجمل؟ أسئلة متناقضة يثيرها الوضع الخارج عن المنطق في هذا البلد الصغير المجبول بالأعاجيب.
يصعب حصْر حال اللبنانيين في موسم الأعياد بوصفٍ واحد أو تقييمه عبر وجهة نظر أحادية. فالحال متشعّب ومعقّد وموسم الأعياد في «بلاد الأرز» يحمل أوجهاً عديدة، بين المتوهّج والمضيء والشاحب والمظلم… هو مزيج غريب يعكس غرابة هذا الشعب وقدرته الهائلة على التشبث بالحياة ومواجهة الصعاب الى حدٍّ بات التساؤل المطروح: هل هو حب الحياة ما يعين اللبناني على الاستمرار أم هو نوع من التسليم بالقدَر والاستسلام لظروف أقوى منه بات يعتبر أنه ليس قادراً على مواجهتها؟ قصص الناس يختلط بعضها ببعض بفرحٍ وحماسة حيناً وبخيبةٍ ويأس أحياناً كثيرة.
استيقظت ميراي الشابة الجامعية صباح أحد الأيام التي سبقت موسم الأعياد لتجد التيار الكهربائي مقطوعاً كلياً عن منزلها. السبب ليس تقنين الكهرباء المعهود في لبنان، بل عدم قدرة الوالديْن على دفع فاتورة المولّد التي تراكمت مع الأشهر وفاقت 800 دولار ما جَعَلَ صاحب المولد يقطع التيار عن المنزل.
أُحبطت الشابة للحال التي وصل إليها والداها المدرِّسان اللذان لا يزال راتبهما بالليرة اللبنانية وصار بالكاد يكفي مصاريف العائلة. لكن أصدقاء الصبية تداعوا جميعاً في لبنان وخارجه لمساعدة العائلة في الأعياد وجمْع المبلغ المطلوب لسداد فاتورة المولد وتحقيق ما كان على الدولة تحقيقه وهو إعادة الضوء الى بيت هذه العائلة التي ربّت أجيالاً.
صورةٌ تجمع بين يأس الناس ممّن يُفترض أن يكونوا قيّمين على شؤونهم وإيمانٍ بتعاضدهم ووقوفهم الى جانب بعضهم البعض. الكل يحاول أن يساعد نفسه أولاً ثم الآخَرين للصمود في وجه التحديات ولا سيما في موسم الأعياد. في أحد الأسواق الخاصة بالعيد غابت البضائع المستورَدة التي اعتادها اللبنانيون في سنوات العز لتحل محلها بضائع من نوع آخَر أكثر التصاقاً بالناس وتعبيراً عنهم. هنا شبان وشابات حوّلوا مواهبهم مصدرَ دخلٍ لهم ولعائلاتهم وجَعَلوا كل ما يتقنونه من مهاراتٍ يدوية وإبداعية إنجازات تصلح للبيع كهدايا للأعياد. مصنوعاتٌ يدوية أبدع شباب لبنان كما شيبه أيضاً في تصنيعها بأساليب بسيطة وحوّلوها قِطعاً راقية يتهافت الناس على شرائها بأسعار مقبولة تنافس البضاعة الأجنبية. تصاميم لبنانية، أكسسوارات، خدمات، مأكولات مؤونة وحلويات الأعياد، كلها صُنعت بأيدي هؤلاء لتكون أسلوباً جديداً في مواجهة الأزمة وسلاحاً في وجه القِلة. مردود المبيعات بعضه يعود الى أصحابه وبعضه الآخر يعود ريعه الى الجمعيات الإنسانية التي تعنى بمساعدة الأكثر حاجة. هو نظامٌ متكامل تتضامن فيه كافة الحلقات لتشكل نوعاً من الحماية الاجتماعية الغائبة لفئات مختلفة.
عودة المغتربين في العطلة تشكّل بدورها دعماً للعائلات من جهةٍ ولبعض القطاعات السياحية من جهة أخرى. عودةٌ لا تخلو من الالتباسات. فالذين رحلوا وتركوا البلد صار من الصعب عليهم العودة إليه للتخبط في كل صعابه وفوضاه ومآسيه. بالنسبة إليهم صار لبنان مسرح العطلة لا أرض الوطن. «رغم حبي لبلدي وتعلُّقي بجذوري» يقول غياث «لا أنكر أنني صرتُ أشعر بأن مستقبلي ليس فيه بل هو حيث أعيش الآن. أرسل مبلغاً شهرياً لأهلي وآتي في الأعياد لزيارتهم ولأتسلى وأمضي وقتاً طيباً لكنني بعد ذلك أعود الى حيث عملي ومستقبلي».
عودة المغتربين ومعهم بعض السياح العرب يُتوقع أن تصل بالأرقام إلى 600000 قادم وبمعدل 11000 عبر المطار يومياً يمضون ما بين عشرة و 15 يوماً في ربوع لبنان ليساعدوا في تحريك القطاعات المختلفة لا سيما السياحية. أما التجارية فلا يزال المعنيون بها يئنون لأن القادمين غالباً ما ينفقون المال على الترفيه لا على شراء المنتجات المعروضة في الأسواق، وفق ما يقول نقولا الشماس رئيس جمعية تجار بيروت. ولا يمكن التعويل على إنفاقهم كثيراً اقتصادياً رغم أنهم يشكلون البحصة التي تسند الخابية المتهالكة. هؤلاء القادمون لا يعنيهم عدم وجود رئيس جمهورية ولا كون البلد في عهدة حكومة مستقيلة، فما يهمّهم الاستقرار الأمني الذي يتيح لهم تمضية عطلة آمنة وهادئة وهو ما تسعى الجهات الأمنية للحفاظ عليه في الظاهر رغم بعض الخروق.
أما القاطنون في لبنان، فغياب الرئيس والحكومة الفاعلة ينعكس على كل تفصيل من تفاصيل حياتهم اليومية وأبرزها التفلت في سعر الدولار الذي شهد قفزة كبيرة قبل الأعياد إلى عتبة 46 ألف ليرة ما انعكس على كل أسعار السلع. وبات المواطنون يَخشون التوجه الى محال السوبرماركت لشراء ما يلزمهم للأعياد خشية أن تكون الأسعار «اشتعلت» أكثر مع «تحليق» العملة الخضراء وارتفاع قيمة الدولار الجمركي ورفع الضرائب في الموازنة التي أُقرت أخيراً. لبنانيون صاروا يحسبون ألف حساب قبل شراء كيلوغرام واحد من اللحم او الدجاج ويفتشون عن أرخص الأصناف وأوفرها ليعدوا مائدة بما تيسر. ويقول مارون وهو أحد أصحاب محال بيع الدواجن أن حبش العيد «بات من الماضي لا سيما وأن غالبيته مستورد وقد بلغ سعر الكيلو منه تقريباً خمس دولارات ما يجعل حبشة الأعياد صنفاً مخصصاً للأغنياء فقط فيما يعمد الناس العاديون الى شراء دجاج العيد المربى في المزارع المحلية هذا إن استطاعوا إليه سبيلاً». ولا شك أن أصنافاً كثيرة ستغيب عن موائد و احتفالات الأعياد عند غالبية الأسر، علماً أنها لم تكن تُعتبر فاخرة في السابق لكنها باتت كذلك اليوم مثل الأجبان المستورَدة واللحوم الباردة وأصناف السمك وحتى المكسّرات والقلوبات. «لا يمكن أن يغيب احتفال العيد عن بيتنا» تقول ليلى، وهي ربة بيت وجَدة لعدد من الأحفاد «وسنفعل ما بوسعنا ونبتكر حلولاً عملية لتحضير مأدبة العيد بأوفر كلفة. وأظن أن جيلنا قد تربى على التقشف وهو قادر على إعداد أفضل السُفر بما يتواجد لديه في البيت، لسنا مضطرين لتناول السلمون والفيليه فالعودة الى طبخاتنا التراثية تحل المشكلة.». هذا المبدأ ينتفي على مستوييْن: الأول الأشخاص الذي لديهم مدخول بالعملة الأجنبية ولم يتأثّروا كثيراً بارتفاع الأسعار ولا يهمهم أن ينفقوا مئتي دولار وما فوق على مائدة الأعياد وأكثر منها على سهراتهم. والثاني مستوى الأسر الفقيرة التي لا تستطيع حتى تأمين أدنى الأساسيات من أطعمة وأدوية وحليب للأطفال.
ويتجلى هذا التناقض على كل أوجه الاحتفال بأعياد نهاية السنة. فالحجوزات في الفنادق والمَطاعم بلغت حدّ الامتلاء لا سيما بالنسبة لسهرة رأس السنة والفترة الممتدّة بين عيدَي الميلاد ورأس السنة كما يؤكد نائب نقيب أصحاب المطاعم خالد نزهة. لكن الأرقام تؤكد أن غالبية رواد المطاعم والسهرات هم إما من السواح العراقيين والأردنيين والمصريين والمغتربين اللبنانيين العائدين أو من فئة الشباب الذين لا يبالون بإنفاق ما يجنونه على سهرة ممتعة أو جَمْعة شبابية مسلية. أما أصحاب الدخل المحدود أو ما كان يُعرف بالطبقة الوسطى فهؤلاء يكتفون بالسهر في البيت وتجنُّب تكلفة السهر خارجاً إلا في ما ندر وكذلك تجنّب تكلفة الانتقال الى أماكن السهر ودفْع تعرفة الموقف التي وصلت الى مئة ألف ليرة في أماكن عدة. ولكن في حين يَعْجَز البعض عن الوصول الى هذه الأماكن فإن عروضاً كثيرة تُقدم من شركات السفر والسياحة لتعرض على اللبنانيين قضاء الأعياد إما في تركيا أو سورية أو الأردن بأسعار مقبولة جداً تكاد توازي كلفة سهرة رأس السنة في مكان فاخر في بيروت.
ارتفاع نسبة الحجوزات في الفنادق لن تترافق مع الحفلات الترفيهية الكبرى التي كانت تقام سابقاً في هذه الفنادق. الأسماء الفنية المعروفة تكاد تغيب عن الحفلات المحلية وقلة قليلة تحيي حفلاتها في لبنان، وكذلك قلة قليلة جداً من الإعلانات عن الحفلات تَظهر في الشوارع وعلى الطرق بعدما كانت تملأها في فترة الأعياد خلال سنوات الرخاء والعز. هذا الغياب اللافت يبرره مسؤول العلاقات العامة في أحد الفنادق بكون الفنانين يبحثون بدورهم عن مصدر دخل بالعملة الصعبة خارج لبنان وهم يطلبون مبالغ مرتفعة بالدولار لإحياء الحفلات في البلد وهذا ما لا قدرة للفنادق على تأمينه في ظل ارتفاع كلفة تشغيل الفنادق.
فرح الأعياد لن يغيب وإن كانت الغَصة ترافقه عند العائلات التي باتت دون مستوى الفقر غير قادرة على تأمين الأرز والعدس والزيت لأطباقها، وعند الأهل العاجزين عن شراء لعبة لأطفالهم. لكن الجمعيات الأهلية حاضرة لتعين الأكثر حاجة بما تَيَسَّر، وأهل الخير جاهزون للتبرع بالأموال والمساعدات فيما الدولة مستقيلة و«تلهو» بمعارك فوق ركام وطنٍ وكأن لسان حال الجميع في زمن السلم هذه المَرّة: «سألوني شو صاير ببلد العيد؟».