20-أبريل-2024

نداء الوطن
تبيّن من الاجتماع الذي عقدته لجنة المال والموازنة أمس مع وزير المال في حكومة تصريف الاعمال يوسف خليل ان هناك خطوة الى الوراء، أو تأرجحاً، في ما خص سعر الصرف الخاص بضرائب معينة. وفي البيانات الصادرة بعد الاجتماع اشارة الى ان الموازنة لم تعتمد سعر صرف جديد محدد لكل التعاملات، وانه يجب تجميد العمل بقرارات ضريبية باتجاه تعديلها من جهة واعتماد سعر صرف «مناسب» لها من جهة أخرى.
لم يمض على اقرار تلك الموازنة أكثر من شهرين ونيف ليتبين انها كانت عبارة عن «سلق بيض» لهدفين: الأول شعبوي والثاني احتيالي: زيادة رواتب موظفي القطاع العام، والقول بان شرطاً من شروط صندوق النقد قد نفذ. في هذا السياق، وغيره مما يتصل بسعر الصرف عموماً، يمكن الإشارة الى جملة ملاحظات كالآتي:
إرهاصات غير سوية لتضييع الطاسة
أولاً: ضربت الموازنة من بيت أبيها بالدرجة الاولى، عندما رفضت المرجعية السياسية ليوسف خليل (رئيس مجلس النواب ورئيس حركة «أمل» نبيه بري) ظهورها بمظهر الدافع باتجاه تعديل سعر الصرف لاعتماد ما سمي بالدولار الجمركي. ثم بعد مناورات شعبوية و»تضييع الطاسة» عمداً صدر قرار باعتماد ذلك الدولار بسعر 15 ألف ليرة اعتباراً من اول كانون الاول.
المفاجأة أتت من حيث لا يجب، اذ ظهرت الى العلن خلافات احتدمت بين وزراء الاقتصاد والصناعة والزراعة والمال، حول تطبيقات خاصة بما هو معفى وغير معفى من اعتماد السعر الجديد. والى اليوم لا لوائح نهائية صدرت، ما يعني ان كل الاجتماعات التي عقدت على مدار نحو سنة ذهبت سدى لتحضير الموازنة، في حكومة تتخبط في اعقد القرارات وابسطها على حد سواء، وتتجاذبها «لوبيات» تجار وصناعيين فضلاً عن شعبويين من كل حدب وصوب. والكل يتغطى بسرديات مصالح الناس والاقتصاد الوطني والمالية العامة.
الغلاء في مكان آخر… خاص بسعر الصرف
 
 
 
ثانياً: تدور النقاشات حول الغلاء الممكن اطلاق حلقة جديدة من حلقاته الجهنمية، بفعل الدولار الجمركي والضرائب الجديدة. الا ان المعنيين جميعاً تقريباً يتجاهلون أس المشكلة، او يقفون عاجزين أمامها، وهي ان الغلاء يأتي اولاً من ارتفاع سعر صرف الدولار، لأن البلاد تستورد 80% من حاجاتها على الأقل. فبين يوم اقرار الموازنة في 26 ايلول الماضي واليوم، ارتفع سعر الصرف في السوق الموازية نحو 13 الى 14%. وبالتالي ارتفعت الاسعار بهذه النسبة ان لم تكن اعلى منها. في المقابل فان المعدلات الوسطية لارتفاع الاسعار تبعاً لاعتماد سعر دولار جمركي جديد تراوح بين 20 و25% (نظرياً) تضاف الى تراكم تضخم بلغ 1400% منذ بداية الازمة.
كان يمكن تحمل نسبة الغلاء الإضافية لو ان الاسواق مضبوطة ومراقبة جيداً، ولو ان المعابر لا تشهد تهريباً وتهرباً جمركياً وغشّاً في بيانات الافصاح. لكن المشكلة تبقى في سعر الصرف المتردي يوماً بعد يوم، وهو الضاغط الاول والاخير على المستهلك والمواطن في معيشته. لذا فالنقاش عن الدولار الجمركي واثره يبقى هامشياً امام توحيد اسعار الصرف واعتماد معدل مرن كما يطلب صندوق النقد بسياسة نقدية جديدة مشفوعة بتطبيق الاصلاحات الموعودة، لا سيما على صعيد السياسة المالية والقطاع المصرفي ومصرف لبنان. وهذا ما تتهرب منه السلطتان السياسية والنقدية لغايات كثيرة، ابرزها استمرار التهرب من توزيع الخسائر كما يجب، وتربّح البعض من تعدد اسعار الصرف، وعدم وجود نية حقيقية لاصلاحات جذرية نافذة تسهم في بدء رحلة الاستقرار والنمو المؤدية حتماً الى سعر صرف متزن نسبياً، يستقر عند مستوى معين تتوقف معه زيادات الاسعار ومعدلات التضخم.
فما قيل انه خطوة باتجاه توحيد اسعار الصرف تبين انه ليس الا ترقيعاً لزيادة ايرادات تقابل نفقات لا سيما زيادة رواتب الموظفين.
ولا علاقة له بالشرط الذي وضعه صندوق النقد والخاص باعتماد سعر صرف واحد مرن، يوقف كل التشوهات الحاصلة على صعد تعدد أسعار الصرف التي تحولت الى ثغرة هائلة تفيد المضاربين والمتربحين على حساب ما تبقى من احتياطات في مصرف لبنان.
لم يأت يوسف خليل بأي جديد إصلاحي
ثالثاً: ما من شك في أن زيادة الايرادات العامة بايرادات ضريبية جديدة أمر طبيعي من حيث المبدأ. لكن هل الذي اعتمده يوسف خليل في 2022 يعتبر اصلاحياً على هذا الصعيد؟ المتابع لا يرى الا تكراراً لسياسات سابقة لطالما كانت منتقدة، لانها تعتمد اساساً على الضرائب غير المباشرة او ضرائب الاستهلاك بنسبة تفوق 80%، فيما ضرائب الثروة وغيرها من تلك التي تطال الشرائح المليئة لا تساوي اكثر من 20% من اجمالي الايرادات. فالاستسهال مستمر، ولم يأت يوسف خليل بشيء جديد، رغم انه سمع كلاماً من وفد لصندوق النقد حول ضرورة تحميل اصحاب الملاءة ضرائب اكثر. وبين الاحتمالات المطروحة تطبيق ما يسمى «سي آر اس» لفرض ضرائب على ثروات ومداخيل لبنانيين في الخارج وهم مقيمون معظم اوقاتهم هنا في لبنان. وهذا ما تطبقه معظم الدول الغنية والليبرالية حول العالم.
شعبويات وديماغوجيات الوزراء
رابعاً: العشوائيات الديماغوجية حيناً والشعبوية احياناً تضرب اطنابها. للمثال: عند اقرار الموازنة في إحدى الجلسات الاخيرة لمجلس النواب حول مناقشتها، إنبرى الوزيران علي حمية وجوني القرم ليقولا إن في وزارتيهما (الاشغال والاتصالات) ايرادات فائضة يمكن رفد الخزينة العامة بها. واظهرا بطولات كما لو انهما انقذا الموقف عند احتدام النقاش حول اثر زيادات الرواتب في نسبة العجز. الا ان الوزيرين المذكورين حضرا جلسة مجلس الوزراء اول من امس، وقدما او ضغطا باتجاه تمرير بنود فيها نفقات اضافية. فأي منطق يحكم من يدعي انه يزيد ايرادات الدولة ثم يلحس كلامة لزيادة نفقاتها بالقدر نفسه او اعلى ربما. وهذا المثال يضاف الى عشوائيات أخرى كثيرة بنيت على اسسها هذه الموازنة الترقيعية غير الاصلاحية. حاكم مصرف لبنان يشتري الوقت
خامساً: بنى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تحضير قرارات جديدة بناء على اعتماد 15 ألف ليرة لسعر الصرف الجديد، على ان يبدأ العمل بذلك من شباط المقبل. وهو بذلك منح المصارف فترة سماح لتسكير ميزانياتها على سعر الصرف القديم (1500 ليرة للدولار) ليترك مفاعيل السعر الجديد بالظهور بشكل خجول عشية خروجه من الحاكمية في تموز المقبل. مفاعيل لا تنضج شيئاً اصلاحياً على طريقة المماطلة المستمرة منذ 3 سنوات. وذلك مثلاً بانتظار طبخة بحص اسمها قانون اعادة هيكلة البنوك واعادة التوازن للنظام المالي (كيفية توزيع الخسائر). اذ يعلم سلامة قبل غيره ان تلك الطبخة ستستغرق شهوراً طويلة جداً، على غرار مشروع قانون الكابيتال كونترول المماطل به منذ فترة طويلة جداً. وما التأجيل الذي يعتمده سلامة الا لشراء وقت لهذه المنظومة كما كان يفعل دائماً، وللمضي قدماً في تذويب الخسائر على طريقته، ومن يأتي بعده فليأخذه الطوفان!
كلفة اضافية آتية لا محالة
سابعاً: يستمر الهروب من الحقيقة رغم مرور اكثر من 3 سنوات على الازمة. فالحقيقة الثابتة الوحيدة هي انه لا يمكن بعد اليوم اعتماد اسعار صرف عشوائية لا هي مبنية على اسسس قانونية وليس لها اي مبررات مالية واقتصادية. فالخسائر التي تراكمت وناهزت 75 مليار دولار تراكمت لأسباب وجيهة عديدة ابرزها خطيئة تثبيت سعر الصرف منذ 1997 عند سعر 1507.5 ليرات للدولار. وما اعتماد اسعار صرف متعددة طيلة السنوات الثلاث الماضية الا للهروب من مسؤولية توزيع الخسائر بشكل عادل ومنع اطلاق حلقة محاسبة ومساءلة عن اسباب الازمة والمتسببين بها. فذلك التعدد سمح بتذويب ودائع على حساب المودعين لا سيما الصغار منهم، واطلق موجة تضخم عارمة دفعت ثمنها شرائح واسعة من المجتمع ليست هي بالضرورة الشرائح المعنية بأسباب الازمة.

خلاصة القول ان للسعر الجديد كلفة ستضاف الى الخسائر المتراكمة حتى تاريخه. ولا ريب في ذلك طالما لا بارقة امل حقيقية تشي بأن الاصلاح بات وشيكاً.