صوّر مهندس شاب في بداية العشرينيات من عمره يدعى زيد خان مقطع فيديو مدته 17 ثانية فقط، ونشره الشهر الماضي على تطبيق تيك توك، وحصل على ملايين المشاهدات فور إطلاقه، وما يزال يحصد المزيد منها حتى كتابة هذه السطور.
مع صوت البيانو الذي يعزف لحنا على غرار موسيقى “الراغتايم”، ولقطات صيفية لمدينة نيويورك تومض عبر الشاشة؛ يروي خان قصته وفكرته، ويقول “لقد علمت مؤخرا عن المصطلح الجديد المسمى “الاستقالة الصامتة”، حيث لا تستقيل تماما من وظيفتك، لكنك تتخلى عن فكرة الذهاب إلى أبعد من ذلك؛ ما زلت تؤدي واجباتك المطلوبة منك في العمل، ولكنك لم تعد تشارك وتؤمن بـ”ثقافة أن العمل هو كل حياتك”، إن الأمر ليس كذلك، وقيمتك الشخصية لا يتم تحديدها من خلال عملك”.
ومنذ إطلاق هذا الفيديو، وعلى مدى الأسابيع الماضية؛ انفجر مفهوم “الاستقالة الصامتة” عبر وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، حسب ما ذكرته منصة “إن بي آر” (npr.org) في تقرير لها مؤخرا.
وبعبارة أخرى، فإن الاستقالة الصامتة لا تعني الاستقالة حقا من العمل، ولكنها تعني القيام بالحد الأدنى المطلوب في العمل، وهو مصطلح يصف تركيز الموظفين على ساعات عمل محددة وإنجاز المهام المرتبطة بالوصف الوظيفي فقط.
وساعد الجيل (زد) في انتشار هذا المصطلح بين الشباب، ويمكن أن تتخذ علامات الاستقالة الصامتة أشكالا مختلفة، منها رفض الرد على رسائل البريد الإلكتروني خارج أوقات العمل أو خلال عطلات نهاية الأسبوع، وتخطي المهام الإضافية التي تقع خارج نطاق واجباتهم الأساسية، وعدم حضور الاجتماعات، والوصول متأخرا أو المغادرة مبكرا، والمساهمة أقل في مشاريع الفريق.
وحسب استطلاع أجرته شركة “أكسيوس أند جنريشن لاب” مؤخرا، وركز على علاقة “الجيل زد” بالعمل؛ قال 82% من المشاركين في الاستطلاع إن القيام بالحد الأدنى من العمل للحفاظ على وظائفهم أمر “جميل أو جذاب للغاية”، في حين قال 15% منهم إن هذا ما يفعلونه بالفعل.
وضع الحدود
في اليابان، هناك مفهوم يسمى “شكونين”، ويشير إلى الحرفي الذي يكرس حياته لمهنته، ويسعى دائما لتحقيق الكمال في ما يعمل أو يصنع. الاستقالة الصامتة عكس ذلك تماما، ويتعلق الأمر بالقيام بالحد الأدنى من الجهد من أجل تأمين لقمة العيش، وليس السعي لتحقيق الكمال أو الإبداع في العمل.
والاستقالة الصامتة مصطلح يتعلق بوضع الحدود، بمعنى أن تكمل المهام التي من المفترض أن تكملها في الوقت الذي يدفعون لك مقابل القيام بها، ومن دون أي جهد إضافي، فلا مزيد من الانصياع لرئيسك أو عملائك بشكل أعمى في كل ما يطلبونه منك، ولا مزيد من ليالي العمل في البيت، أو في عطلات نهاية الأسبوع، أو التحقق باستمرار من بريدك الإلكتروني.
أسباب الاستقالة الصامتة
لقد حوّل وباء كورونا علاقة الناس مع العمل، خاصة جيل الشباب الذين أسهموا في ردود الفعل العكسية ضد ثقافة “الإخلاص في العمل”؛ فلم تكتف جائحة كوفيد-19 بتعطيل معظم مناحي الحياة لأوقات طويلة، بل جعلت كثيرا من الناس يعيدون التفكير في اختياراتهم المهنية وطرق عيشهم.
ونتج عن هذا ما يعرف باسم “الاستقالة الكبرى”، حيث ترك 71.6 مليون شخص وظائفهم في أميركا فقط من أبريل/نيسان 2021 وحتى أبريل/نيسان 2022، وهو ما يعادل 3.98 ملايين شخص يستقيلون شهريا، وفقا لمكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمل، ووصل العدد في يونيو/حزيران الماضي إلى 4.2 ملايين شخص، وما زالت العملية مستمرة، لتتطور مؤخرا إلى مفهوم “الاستقالة الصامتة”، وهي الطريقة الجديدة لأداء العمل بالحد الأدنى من الجهد.
وفي الحقيقة، فإن هذه الممارسة ليست شيئا جديدا تماما، فقد ترك العمال وظائفهم بهدوء سنوات للبحث عن شيء جديد، سواء كان ذلك بسبب ضعف الأجور، أو عبء العمل الذي لا يمكن التحكم فيه، أو الإرهاق أو نقص فرص النمو، أو عدم التقدير من قبل الرؤساء والمديرين.
وعانى 7 من كل 10 موظفين من الإرهاق العام الماضي، وفقًا لتقرير “أسانا” لعام 2022، وأظهرت نتائج التقرير أيضا أن الموظفين الذين يعانون من الإرهاق هم أقل مشاركة، ويرتكبون المزيد من الأخطاء، ويتركون العمل، ويكونون أكثر عرضة لخطر انخفاض الروح المعنوية.
ولكن الوباء وضع مفهوم “الاستقالة الصامتة” في دائرة الضوء، وقلب ثقافة العمل رأسا على عقب، بعد أن أصبح لدى المزيد من الأشخاص الوقت الكافي للتفكير والتشكيك في وظائفهم، والسعي إلى المزيد من التوازن بين العمل والحياة.
وحسب تقرير لمنصة “لينكد إن” حول “اتجاهات المواهب العالمية” للعام الجاري، فإن الناس يتجهون الآن إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتنفيس عن مشاعرهم وإحباطهم من العمل، كما فعل زيد خان عبر منصة تيك توك كما أسلفنا.
ووجد استطلاع آخر للرأي أجرته مؤسسة غالوب عام 2021 أن 36% فقط من الأشخاص أفادوا بأنهم منخرطون بشكل فعال في وظائفهم، وكثير منهم يبقون في عملهم ويبحثون عن وظيفة مختلفة لتحسين حياتهم أثناء تحصيل راتب ثابت، والاحتفاظ بالتأمين الصحي، أو أي مزايا أخرى تمنحها لهم وظيفتهم التي يعملون بها.
كما أدى “العمل عن بعد” أيضا إلى تغيير ديناميكيات مكان العمل؛ لأن الموظفين والمديرين يتواصلون بطرق مختلفة من خلال الاجتماعات عبر الإنترنت على منصات مثل “زوم”. وهذه التفاعلات أكثر رسمية من جلسات الدردشة التي تحدث في المكتب، لأنها تحتاج إلى جدولتها بدل كونها مرتجلة، حيث يمكن أن تتسبب الاجتماعات المحدودة في انقطاع الاتصال بين الموظفين والإدارة، ويمكن أن يضيع الدعم المنتظم والثناء الذي يجعل الموظفين يشعرون بالتقدير من مديريهم وزملائهم على المجهود الذي يبذلونه في العمل.
كيف تتعامل مع رغبتك في الاستقالة الصامتة؟
قد تساعد الاستقالة الصامتة في تخفيف الإرهاق في العمل على المدى القصير، لكنها ليست حلا طويل الأمد، كما يؤكد الخبراء في تصريحات لهم نقلتها منصة “سي إن بي سي” (CNBC) مؤخرا، وفي ما يلي أهم ما ورد فيها:
كن فعالا
يعد تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة أمرا مهما، لكن مايكل تيمس كبير المتخصصين في الموارد البشرية في شركة “إنسبيرتي” يؤكد أن على الموظفين الاستمرار بالمشاركة في فعالية في العمل، وقال “إذا كنت ستتبنى مستوى معينا من “الاستقالة الهادئة”، فإن الساعات التي تقضيها في وظيفتك يجب أن تكون فعالة.. بهذه الطريقة، ستستمر في النمو وتطوير مهاراتك والاستفادة من الخبرات التي يقدمها الآخرون الذين لديهم المزيد من الخبرة والمعرفة، وقد تعيد اكتشاف إبداعك وشغفك الذي فقدته والذي قد يجلب لك المزيد من السعادة”.
خذ زمام الأمور
لاحظت المدربة المهنية كيلسي وات أن الأشخاص الذين ينخرطون في الاستقالة الصامتة يشعرون بالألم والمرارة والاستياء تجاه مديريهم وأرباب عملهم، نتيجة الإرهاق وعدم التقدير، “لا أحد يحب أن يكون على هذا النحو، فالكل يحب أن يشعروا بالراحة والتقدير على ما يبذلوه من جهد، وهو ما يعني أن على المديرين أن يقدّروا المجهود الذي يبذله الموظفون في شركاتهم، وأن يعملوا على توفير سبل الراحة داخل بيئة العمل”.
وأضافت وات “أنه رغم كل ذلك، فإن الاستقالة الصامتة ليست حلا، ولن تكون مستدامة على المدى الطويل، لأنها لا تعطي إحساسا أكبر بالهدف من الحصول على التقدير في العمل أو احترام الذات”.
من جهتها، قالت جايا داس من شركة “راندستاد” إنه يجب على الموظفين أن يأخذوا زمام الأمور من أجل نموهم ومعرفة سبب شعورهم بالإرهاق، أو سبب حاجتهم إلى الاستقالة الصامتة.
وأضافت “يسارع الناس إلى القول إنني غير سعيد، ولكن لماذا أنت غير سعيد؟ وما الذي يمكن أن يجعلك سعيدا؟ سؤال صعب للغاية”.
تحدث إلى رئيسك
بينما لجأ بعض الموظفين إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن سبب استقالاتهم الصامتة، ينصح خبراء العمل بضرورة التحدث إلى رؤسائهم بدل ذلك.
قالت داس “الأمر المخيف حقا بشأن ظاهرة الاستقالة الصامتة أن المديرين والأشخاص داخل الشركة لا يعرفونها، والأشخاص الذين ليسوا في العمل يعرفونها”.
وأضافت المدربة المهنية وات أنه “أمر غير مسؤول”، الاستقالة بصمت من دون إجراء محادثات مع صاحب العمل حول احتياجاتك وما ينقصك والتحديات الحالية التي تواجهها.. إذا لم تتحدث مع مديرك أو صاحب الشركة وبقيت تكتم مشاعرك فلن يتحرك الأمر أبدا.
من جانبها، قالت الدكتورة نتالي بومغارتنر “إن الاستقالة الصامتة صرخة من الموظف من أجل المساعدة، والمهم أن يستمع أصحاب العمل والمديرون لهذه الصرخة، ويتخذوا إجراءات حقيقية لتدارك الموقف وتحسين بيئة العمل”.
وأضافت “من المهم جدا أن تتحدث مع مديريك إذا كنت تشعر بعدم التقدير في عملك أو بالتعب والإجهاد، وحتى لو كانت المحادثة غير مريحة بالنسبة لك فمن المهم التعبير عن رأيك ومشاعرك، وكن صريحا وواضحا في حديثك”.
وبعد، هل أنت غير مرتاح في وظيفتك وتشعر بالرغبة في الاستقالة الصامتة، وبذل أقل جهد في عملك. بدلا من الاستقالة ننصحك بالتحدث لمديرك أو صاحب العمل فقد يجد الحل الذي كنت تعتقد أنه غير موجود أبدا. “الجزيرة”