16-أبريل-2024

تبدو صناعة الأزياء مشرقة مليئة بالمرح مع عارضات الأزياء الجميلات، والفساتين الأنيقة، وآخر ما يبتكره مصممو الأزياء في العالم. ولكن، هناك جانب مظلم ومعتم في هذه الصناعة.

وقد تتفاجأ حين يرتبط ذكر عالم صناعة الأزياء بمصطلحات مثل السيطرة القسرية، وتلويث البيئة والعنف الجسدي والمعنوي والاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر، وغيرها الكثير من الخطايا المخفية خلف الفساتين المثيرة والقمصان الفاخرة وأطنان الماكياج.

ثاني أكبر ملوث للبيئة في العالم
تعتبر صناعة الموضة والأزياء واحدة من أكثر الصناعات تلويثا للبيئة في العالم، فهي تسبب التلوث أكثر من قطاعات الشحن بالسفن والطيران والصناعة الجوية مجتمعة، كما أنها مسؤولة عن 20% من مياه الصرف الصحي في العالم، و10% من انبعاثات الكربون السامة، ويصنفها الكثير من العلماء والخبراء على أنها ثاني أكبر ملوث للبيئة بعد صناعة النفط، وذلك حسب ما ذكرت منصة “سلايد بين” (slidebean).

ويتطلب صناعة زوج واحد من بناطيل الجينز كيلوغراما من القطن، والذي بدوره يتطلب حوالي 7500 إلى 10 آلاف لتر من الماء، وهو ما يعادل 10 سنوات من مياه الشرب لشخص واحد.

أما صناعة قميص قطني واحد فيتطلب 2700 لتر ماء، وهو ما يعادل 3 سنوات من مياه الشرب لشخص واحد. وبالطبع، تشمل التأثيرات البيئية أكثر من مجرد المياه، إنها تتعلق أيضا بانبعاثات الكربون والتلوث وتدهور التربة، ناهيك عن أن صناعة الأزياء تنطوي على استخدام الكثير من الأيدي العاملة، ونحن هنا نتحدث عن شخص واحد من كل 6 أشخاص على مستوى العالم يعملون في صناعة الأزياء، ولا نبالغ عندما نقول إن صناعة الأزياء بما فيها العلامات التجارية الفاخرة استغلالية للغاية، وفق ما ذكرت منصة “غرين إز ذا نيو بلاك” (green is the new black).

وعند التفكير في الموضة، علينا أيضا التفكير فيما وراء إنتاج الملابس، إنها دورة حياة كاملة، علينا أن نفكر في: النقل والاستهلاك والاستخدام والتخلص النهائي من الفضلات، وكل هذا له تأثيراته البالغة بل والمدمرة على البيئة.

العبودية الحديثة وفخ الأزياء السريعة
قد يعتقد البعض أن العبودية انتهت منذ زمن بعيد، ولكن هذا مجرد وهم، فهي موجودة ونحن ندري أو لا ندري، فحسب تقرير نشرته قبل أيام منصة “ذا ريماركبل ومان” (The remarkable woman) يوجد هناك أكثر من 40 مليون إنسان حول العالم يعانون من العبودية، وأغلب هؤلاء من النساء والصغيرات اللواتي يعملن في صناعة الأزياء أو معامل “الموضة السريعة” (Fast Fashion) في قارة آسيا.

والأزياء أو الموضة السريعة مصطلح معاصر يستخدم في تجارة التجزئة للأزياء للتعبير عن التصاميم التي تنتقل من منصة عرض الأزياء مباشرة لتواكب اتجاهات الموضة الحالية، وتعتمد مجموعات أزياء الموضة السريعة على أحدث الصيحات المعروضة في أسبوع الموضة في كل من موسمي الربيع والخريف من كل عام، وتركز على تحسين جوانب معينة بحيث يتم تصميمها وتصنيعها بسرعة وبتكلفة زهيدة تسمح للمستهلك العادي بشراء آخر صيحات الموضة بأقل سعر.

وأجرى تقرير أصدرته منظمة أوكسفام عام 2019 بعنوان “صنع في فقر- السعر الحقيقي للأزياء” مقابلات مع 472 عاملا في صناعة الملابس في فيتنام وبنغلاديش وهما الدولتان التي تتم فيهما صناعة الأزياء الأسترالية.

حقائق مخيفة وراء صناعة الأزياء
وكشف التقرير عن نتائج مخيفة منها:

9 من كل 10عمال تمت مقابلتهم في بنغلاديش لا يستطيعون توفير ما يكفي من الطعام لأنفسهم وأسرهم، وهم غارقون في الديون لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
%72 من العمال الذين تمت مقابلتهم في مصانع بنغلاديش التي تزود العلامات التجارية الكبرى في أستراليا، و53% في فيتنام، لا يستطيعون تحمل تكاليف العلاج الطبي عندما يمرضون أو يصابون، وهم طبعا غير مغطين بأي من أنواع التأمين الصحي.
%76 من العمال الذين تمت مقابلتهم في مصانع بنغلاديش، و40% في فيتنام، ليس لديهم مياه صالحة للشرب داخل منازلهم.
وفي بنغلاديش أيضا، يتم فصل واحد من كل 3 عمال تمت مقابلتهم عن أطفالهم، ويعزى ما يقرب من 80% من هذه الحالات إلى نقص الدخل الكافي.
وفي أغسطس/آب الماضي، تم اتهام ماركة الأزياء المعروفة “شين” (Shein) من قبل وكالة أنباء رويترز لفشلها في الكشف عن ظروف العمل على طول سلسلة التوريد الخاصة بها التي يقتضيها القانون بالمملكة المتحدة. وحتى وقت قريب، ذكرت الشركة بشكل خاطئ على موقعها على الإنترنت أن الشروط في المصانع التي تستخدمها تم اعتمادها من قبل هيئات معايير العمل الدولية، وهو أمر غير صحيح بالمطلق.

اغتصاب واستغلال جنسي واتجار بالبشر
في فيلم وثائقي حديث من إنتاج صحيفة غارديان (he Guardian) البريطانية و “واندر هود ستوديو” (Wonderhood Studios) بناء على تحقيق استقصائي للصحفية البريطانية لوسي أزبورن، وجاء تحت عنوان “البحث عن الفتيات: الأسرار المعتمة لصناعة الأزياء” (Scouting for Girls: Fashion’s Darkest Secret review) وهو يلقى الضوء على جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي المستشري على الفتيات الصغيرات اللواتي يعملن بهذا المجال، في عمر 13 و14 و15 عاما، وذلك من قبل أولئك الأشخاص الذين يفترض أنهم مسؤولون عن أمنهن وتوفير الحماية لهن.

يركز الفيلم على 4 أشخاص على وجه الخصوص وهم: جون كاسابلانكاس، جيرالد ماري، جان لوك برونيل، كلود حداد، وهؤلاء هم الذين سيطروا بشكل أساسي على صناعة الأزياء بالثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وهي أكثر حقبة براقة في تاريخ هذه الصناعة التي وصلت إلى ذروتها في ذلك الوقت، وذلك مع وجود العديد من عارضات الأزياء الجميلات، وكان الوعد بالنجاح والمال والشهرة والسفر مغريا بدرجة لا تصدق للعديد من الشابات الصغيرات حول العالم، لكن الواقع كان شيئا آخر مختلفا خلف هذا البريق والوهج المسكر.

مات 3 من هؤلاء الأربعة، وبقي ماري الوحيد الذي ما يزال على قيد الحياة، وهو ينفي بشكل قاطع جميع هذه “المزاعم” حسب قوله.

يركز الفيلم على “الكشافة” والوكلاء الذين يبحثون عن الجميلات الرشيقات، وهؤلاء الفتيات هن اللاتي سيصبحن الضحايا للحيوانات المفترسة البراقة، وحين يروين قصصهن المروعة في الفيلم، يصاب المشاهد بالذهول، حيث تشهد العارضات السابقات “كاري أوتيس” و”شونا لي” و”جيل دود” وأخريات على تجاربهن المريرة على أيدي هؤلاء الذئاب.

تروي النساء في الأساس نفس القصص، فتيات صغيرات يتم إغراؤهن للعمل عارضات أزياء، ويشعرن بالعزلة والوحدة بعيدا عن أهلهن في البلاد الأجنبية الغريبة، ويعتمدن بشكل أساسي على الوكالات للحصول على المأوى والمال، ويصبحن ممتنات جدا عندما يهتم رئيسهن بهن ويوفر لهن ما يحتجن إليه، ثم يبدأ الأمر: محادثة لطيفة، وكتف تبكي عليه، والقليل من الدعم ومشاعر التفهم والمشاركة، ثم يتطور الأمر بلطف ولباقة حين يعرض هذا الرئيس على الفتاة البقاء في الشقة والنوم فيها بحجة أن الليل قد تأخر، ثم فجأة يحدث التحرش والاغتصاب.

تتكرر كلمة “محطمة” والشعور المرير بالإهانة بشكل كبير على لسان الفتيات. يغتصب الذكور ثم ينامون، بينما ترقد الفتيات الصغيرات يبكين بصمت ويجتاحهن الرعب حتى بزوغ الفجر.

وتذكر العارضة السابقة جيل دود أن من الممارسات التي كانت شائعة للوكالات “تقديم” نماذج من العارضات إلى الذكور الذين كانوا يدفعون مبالغ باهظة لقاء الحصول عليهن، حيث يختار هؤلاء الأثرياء الفتيات بعد رؤية صورهن في كتالوغات خاصة، وهناك مصطلح يشير إلى هذا بوضوح وهو “الاتجار بالبشر” بالإضافة لكلمات ومصطلحات أخرى تعبر عن الحالة، من مثل السيطرة القسرية والإجبار والإغواء وما إلى ذلك.

وفي الحقيقة فإن هذا يحدث في عالم نادرا ما يحاسب المغتصبين حيث الإدانات بجريمة الاغتصاب منخفضة للغاية في مختلف أنحاء العالم.

وفي ذلك الوقت، اعتقدت “جيل” وأخريات مثلها أن هذه الأشياء الفظيعة حدثت لهن فقط، وأنهن السبب فيما حدث لهن. هو الشعور بالذنب الذي يسيطر على الضحية دائما، ويمنح الفرصة للجاني الحقيقي كي يفلت من العقاب، وفي الحقيقة فإن قلة قليلة من البشر حاولت مساعدتهن أو حتى حمايتهن من الوحوش البشرية المحيطة بهن.

وقد ساعد التحقيق بهذا الفيلم الوثائقي المؤلم في جمع الضحايا المشتتات في مختلف أنحاء العالم معا، وهم يحشدون الآن أعدادا كبيرة من الضحايا، ويساعدون في تحقيق جنائي موسع في فرنسا، ويأملون في تقديم ماري على الأقل إلى العدالة.

من الصعب أن تتغير الأشياء أو على الأقل أن تتغير بالسرعة المطلوبة، ولكن هذا الفيلم عرى هذه الصناعة البراقة، وكشف الكثير من أسرارها وعوراتها.. ويا له من عالم فظيع مرعب. “الجزيرة”