23-نوفمبر-2024

بحلول صباح اليوم الخميس، تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية في بيروت حدود 47,600 ليرة لبنانيّة، مستكملًا بذلك ارتفاعاته السريعة والمتتالية، التي بدأت منذ يوم الإثنين الماضي. ببساطة، وبعد أن انخفض سعر الصرف طوال عطلة رأس السنة إلى مستويات تتراوح بين 42 و43 ألف ليرة للدولار الواحد، عاد سعر الصرف للارتفاع إلى مستوياته السابقة، التي كانت تتجاوز 47 ألف ليرة مقابل الدولار قبل الأعياد. وبذلك تكون التهدئة النسبيّة التي شهدتها سوق القطع قد اقتصرت على 10 أيّام لا أكثر، من دون أن يؤثّر ذلك فعليًّا على أسعار السلع المستوردة في السوق.

لعبة المضاربة: لماذا انخفض سعر الصرف ثم ارتفع؟

لفهم ما جرى في سوق القطع خلال الأسبوعين الماضيين، من الضروري العودة إلى حجم عمليّات منصّة صيرفة خلال الفترة نفسها. فبين 28 كانون الأوّل و9 كانون الثاني الماضيين، وخلال ستّة أيام عمل فقط، تجاوز حجم عمليّات منصّة صيرفة حدود 1.27 مليار دولار، أي بمعدّل 212 مليون دولار خلال اليوم الواحد. مع الإشارة إلى أنّ حجم عمليّات المنصّة بلغ نهار 3 كانون الثاني وحده حدود 310 مليون دولار، فيما بلغ خلال نهار 5 كانون الثاني نحو 305 مليون دولار. وارتفاع حجم العمليّات بهذا الشكل، جاء بعدما أعلن حاكم مصرف لبنان العودة إلى فتح باب بيع دولار المنصّة من دون قيود، وهو ما زاد من وتيرة تداول دولارات المنصّة عبر فروع المصارف اللبنانيّة.

بالتأكيد، خلال تلك الفترة، لم يتم تأمين دولارات المنصّة لجميع طالبي الدولار في سوق القطع، بدلالة استمرار وجود الفرق بين سعر صرف المنصّة المُعلن عنه، وسعر السوق الموازية الذي يعكس موازين العرض والطلب. لكنّ توسّع المصارف بالتداول بدولارات المنصّة، ومفعول الإعلان عن ذلك في سوق المضاربات، ساهما طوال تلك الفترة بخفض سعر الصرف إلى نطاق 42-43 ألف ليرة للدولار الواحد.

ماذا حقق مصرف لبنان من هذه العمليّة المؤقتة والمحدودة النطاق، التي لا يمكن وصفها إلّا بمضاربة سريعة في السوق؟

حسن الظن، يمكن أن يقودنا للاعتقاد بأن المصرف المركزي أراد خلال هذه الفترة شراء الدولارات الواردة إلى السوق، من المغتربين الوافدين خلال العطلة، بسعر صرف منخفض، وهو ما دفعه إلى السعي لتخفيض سعر صرف السوق الموازية بأي وسيلة ممكنة. أمّا سوء الظن، الذي بات مشروعًا بعد كل ما جرى خلال السنوات الماضية، فيمكن أن يقودنا إلى السؤال عن عن هويّة المستفيدين من عمليّات المنصّة، ومن الفارق الكبير بين سعرها وسعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، وخصوصًا حين يبلغ حجم أعمالها هذا الرقم الضخم خلال أيّام معدودة.

في جميع الحالات، وبحلول يوم الثلاثاء الماضي، عاد المركزي ليقنّن عمليّات المنصّة، لتقتصر تداولاتها على 60 مليون دولار في ذلك اليوم، و70 مليون دولار في اليوم التالي (يوم أمس). ومن هنا، يمكن فهم عودة سعر صرف السوق الموازية للارتفاع منذ بداية هذا الأسبوع، ليعود إلى مستويات ما قبل عطلة رأس السنة، التي سبقت الإعلان عن التوسّع في بيع الدولارات عبر المنصّة.

من يستفيد من منصّة صيرفة؟

خلال العام الماضي، قارب حجم عمليّات منصّة صيرفة حدود 12 مليار دولار، في حين أن تدخّلات المركزي لدعم عمليّات المنصّة كبّدته خسارة تقارب 2.57 مليار دولار من احتياطاته. وطوال هذه المدّة، كان الفارق بين سعر المنصّة وسعر السوق الفعلي يتراوح بين 4000 و12000 ليرة للدولار الواحد.

في الوقت الراهن، يبلغ متوسّط سعر الصرف اليومي المعلن عنه لعمليّات المنصّة حدود 38 ألف ليرة، بينما يقارب سعر صرف السوق الموازية حدود 47,600 ليرة. بهذا المعنى، يمكن لأي شخص أن يحقق ربح فوري بنسبة 25%، بمجرّد شراء الدولارات بسعر المنصّة عبر مصرف ما، ومن ثم بيعها في السوق الموازي. وكما هو معلوم، لا يوجد حتّى اللحظة أي معيار يحدد بوضوح هويّة الفئات المستفيدة من عمليّات المنصّة، ما يترك المسألة مرتبطة باستنسابيّة المصارف والصيارفة الذين يتعاملون مع مصرف لبنان بشكل مباشر، وبالعلاقات الشخصيّة التي تسمح لبعض الأفراد بالحصول على سقوف شهريّة مرتفعة لشراء دولارات المنصّة.

أمّا الإشكاليّة الأهم، فهي عدم استفادة مستوردي أبسط السلع الأساسيّة، كالمحروقات والأدوية، من هذه الدولارات المدعومة، التي يقارب حجم تداولاتها السنوي ثلثي حجم السلع والخدمات التي استوردها لبنان خلال العام الماضي. بمعنى آخر، كان من الممكن خفض كلفة استيراد معظم السلع المستوردة بنسبة 25%، لو تم ربط تداولات المنصّة بآليّات واضحة، تحدد الفئات المستفيدة منها وفق الهدف من شراء الدولارات، ونوعيّة السلع التي يتم تمويل استيرادها.

وبذلك، وبدل أن يعمل المصرف المركزي على منصّة تداول قادرة على تحقيق فائدة مجتمعيّة ما، من خلال تمويل الاستيراد مثلًا، خلق أداة للربح المجّاني والسهل، تحقق لأصحاب العلاقات عوائد ضخمة بمجرّد المضاربة على سعر صرف الليرة. مع العلم أنّ الهدف الطبيعي لأي مصرف مركزي في مثل هذه الأوقات، يفترض أن يكون توحيد أسعار الصرف تدريجيًّا والحد من المضاربات على العملة الوطنيّة، لا أن يخلق على نحو متعمّد أدوات إضافيّة للمضاربة على الليرة اللبنانيّة.

حصة المصارف

في الوقت نفسه، كانت المصارف تجد –طوال العام الماضي- في عمليّات المنصّة بابًا إضافيًّا من أبواب الربح السهل والسريع، عبر اقتطاع عمولات تتراوح بين 5% و7% من قيمة العمليّات التي تجري عبر المنصّة. وبذلك، دخلت المصارف كشريك يملك حصّة وازنة، من أرباح عمليّات المضاربة التي يقوم بها الأفراد المستفيدين من دولارات المنصّة. وهذا النمط من العمليّات بات عنصرًا مساعدًا لضمان استمراريّة عمل المصارف، بالرغم من توقّفها عن تقديم أبسط الخدمات المصرفيّة البديهيّة، أي استقطاب الودائع وتقديم القروض، وهو ما بات يسهم في تطبيع وضعيتها الراهنة بدل معالجة خسائرها.

في جميع الحالات، كل ما يجري على مستوى إدارة المصرف المركزي لسياسته النقديّة، ومنها ما يرتبط بمنصّة صيرفة، مازال يعكس غياب النيّة للشروع بأي حل جذري للأزمة النقديّة، وهو ما يفترض أن يبدأ بالسعي لتعويم وتوحيد أسعار صرف الليرة اللبنانيّة. أمّا تعثّر الحل على هذا المستوى، فيرتبط بدوره بتعثّر سائر الحلول الذي يفترض أن تتكامل مع هذا الحل، ومنها ما يتعلّق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإقرار التشريعات المطلوبة لضبط السيولة المتبقية بالعملات الأجنبيّة وإعادة هيكلة الدين العام.

علي نور الدين – المدن