22-نوفمبر-2024

حين اتّضحَ استمرار الانهيار وعجز المنظومة عن وقفه، اجتُرِحَت معجزة طباعة فئات نقدية جديدة تخفّف وجوب حمل كمية كبيرة من الليرات مقابل الدولار، ليس فقط على مستوى سداد التزامات الأفراد، بل أيضاً بالنسبة لالتزامات الدولة تجاه موظّفيها، وما يستدعيه ذلك من حاجتها لطباعة أوراق نقدية لتغطية الرواتب والمستحقات. لكن مع الوقت، باتت انعكاسات إدخال فئات جديدة، أبعد من التسهيلات السطحية.

والأخطر من ذلك، أن الحكومة تحاول اليوم التلطّي خلف طباعة فئات جديدة، لتُجري تغييرات جذرية تصل إلى مهام مصرف لبنان وهيكليّته الإدارية.

تخفيف العدد والكلفة
يشتكي الأفراد من حملهم لكميات كبيرة من الأوراق النقدية. إذ أن الـ100 ألف ليرة هي أعلى ورقة يمكن للمصرف المركزي طباعتها بموجب قانون النقد والتسليف. وكذلك، إن كلفة طباعة الأوراق النقدية تزداد مع ارتفاع حاجة الدولة لتمويل نفقاتها، خصوصاً وأن تعديل رواتب موظفيها، بات ملحّاً، فضلاً عن حاجتها لتغطية قيمة المساعدات المالية التي تقرّها من خارج الرواتب. ومع طرح فكرة رفع الأجور بمعدّل مرّتين على الأقل، تصبح الدولة أمام حاجة إضافية لطباعة العملة، فيصبح طبع فئة الـ500 ألف ليرة أو المليون ليرة، أحد الحلول السريعة، خصوصاً وأن الدولة ستخفِّض كلفة طباعة الأوراق، فتدفع ثمن ورقة واحدة من المليون ليرة، بدل ثمن 10 أوراق من الـ100 ألف ليرة.

لكن تطوُّر الأوضاع سوءاً، جعل للمسألة أبعاداً أعمق تتّصل بفقدان الثقة داخلياً وخارجياً، وبطرد الاستثمارات، وتالياً تأزيم السوق ومواصلة ارتفاع الأسعار وزيادة التضخّم. فطباعة العملة الجديدة هو اعتراف رسمي من الحكومة بعدم قدرتها على ضبط التضخّم، والدليل هو حاجتها لأوراق جديدة. ويرتبط الاهتزاز الداخلي باهتزاز ثقة الخارج الذي يطلب إصلاحات لم يُلتَزَم بها بعد، وهذا يُبعِد المستثمرين عن السوق اللبناني على المديين المتوسّط والبعيد، ما يوسّع بدوره شهية التجّار على رفع الأسعار “تفادياً للخسائر”، وفق ما يدّعونه دائماً.

طباعة العملة خارج المركزي
تحسّباً لما هو أسوأ، تبحث الحكومة يوم الثلاثاء 18 نيسان، بصيغة المعجَّل، مشروع قانون يرمي إلى تعديل المادتين 5 و47 من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي وتعديلاته المنفَّذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ 1/8/1963.

وإذا كان انهيار سعر صرف الليرة يستدعي تغيير فئاتها، فيصبح مفهوماً سبب نقاش المادة 5 التي تحدّد الفئات النقدية التي يصدرها المصرف المركزي. أما طرح تعديل المادة 47 فيخلق علامات الاستفهام. فالمادة المذكورة تنص على أنه “يُمنَح مصرف لبنان دون سواه امتياز إصدار النقد المنصوص عليه بالمادة العاشرة”. والمادة العاشرة تنص على أن “إصدار النقد امتياز للدولة دون سواها. ويمكن للدولة أن تمنح هذا الامتياز لمصرف مركزي تنشئه”.
وبما أن الدولة هي صاحبة الامتياز، ويمكنها منحه للمركزي، يمكنها بالتالي سحب الإمكانية منه وإسنادها لجهة أخرى، هي في الغالب وزارة المالية، مع أن الحكومة لم تحدِّد ذلك بعد.

هوية المركزي ومهامه
التطرّق لامتياز المركزي في إصدار النقد، لا ينفصل عن المسار القضائي المتعلّق بحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، ولا عن قرب انتهاء ولايته وصعوبة تعيين خلف له. وبالتالي، تريد المنظومة استباق الوقت والإمساك بقرار إصدار النقد لتسهيل تمويل الدولة كلّما دعت الحاجة. فالمصرف المركزي حالياً هو المسيطر على كافة جوانب طباعة النقد.

وتنوي الحكومة في هذا التعديل، القفز فوق مهام النائب الأوّل للحاكم. فلو كانت المسألة تتعلّق فقط بفراغ منصب الحاكم، فإن للأخير نواباً، أوّلهم يتحوَّل إلى الحاكم الفعلي، وهو في الأصل يوقِّع مع الحاكم على الأوراق النقدية. كما أن لمصرف لبنان مجلس مركزي يدير عملياته.
تلك التغييرات في حال حصولها، تستدعي السؤال عن “السياسات النقدية التي سينتهجها المركزي مستقبلاً”، وفق ما يقوله لـ”المدن”، الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة الذي يشير إلى أن “للمركزي سياسة نقدية واضحة منذ التسعينيات حتى اليوم، وتقوم على تثبيت سعر صرف الليرة. وفي حال حصول تغييرات في مهام المركزي، فما هي السياسات الجديدة وكيف ستؤثِّر على عمل المركزي؟”.

ينتظر عجاقة إجابات أولية من المجلس المركزي لمصرف لبنان. وإلى حينه، يؤكّد أن “طباعة أوراق جديدة وإجراء التغييرات على مستوى المركزي، هو مؤشّر على مرحلة خطيرة مقبلة، لأن التخفيف من حجم الأوراق في السوق ليس حجّة كافية لإجراء تلك التغييرات”. ويتخوَّف عجاقة من “فوضى عارمة آتية”.
واللافت للنظر، أن ما سيُطرَح على جدول أعمال مجلس الوزراء بعد أيام، “لم يجرِ نقاشه بشكل فعلي بين الوزراء”، وفق ما تؤكّده مصادر وزارية لـ”المدن”. وتنفي المصادر علم الوزراء بإجراء أي تغيير على صعيد العملة والمصرف المركزي “ولم يتم الحديث عن ذلك حتى بنقاش غير رسمي”.
وسط هذا التخبُّط الذي قد ينتج عنه تغيير جذري، تشخص الأنظار نحو مجلس النواب الذي يملك وحده صلاحية تحويل ما تقرّه الحكومة، إلى قانون نهائي. والمجلس في ظل الفراغ الرئاسي، لا يمكنه التشريع. فهل يُخرَق القانون على يد حُماته، أم يُصار إلى ابتداع مسالك جديدة لتمرير ما يَلزَم؟