28-مارس-2024

نعم.. لقد تأمّلتَ خيراً عندما قرأتَ العنوان، وتنفستَ الصعداء عندما غمر نظرك عبارة “الدولار سينخفض”. نعم، أدري تماماً أنك ظننتَ للوهلة الأولى أنّ حياتك ستعود أخيراً إلى ما قبل الأزمة المالية.. لا غلاء فاحشا، والدولار بـ1500 ليرة كما يتمنى كل لبناني ، والحياة طبيعية.. لا أزمة محروقات، لا مشاكل بسبب المواد المدعومة.. الحياة تسير بشكل طبيعي.

في الواقع، كل ذلك سيحصلُ حتماً في تاريخ أكيد.. فالكلام ليس مزحة، ونعم، الدولار سينخفض.. والليرة ستستقرّ، والحياة ستنتظمُ من جديد. حقاً، من منّا لا يريدُ ذلك؟ من منّا لا يريد انفراجة لبنان القريبة؟ من منّا لا يحتاجُ إلى وقتٍ يرتاح فيه من هموم العيش الصعبة؟ من منّا لا يريدُ لهذه الغيمة السوداء أن تزول؟ ولكن.. متى سيحصل ذلك؟

إذا تمعّنا قليلاً في السنوات الماضية، لوجدنا أنّ الطبقة السياسية في لبنان هي “الطبقة الوحيدة التي تجدّد نفسها بنفسها”، وهنا الخطورة الكبيرة. وبدون أي منازع، قد تسمعُ أن النظام الأميركي سينهار، لكنك لن تسمع ذلك أبداً عن النظام اللبناني، إلا إذا حصلت “معجزة”.

نعم، لقد رحل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وبقي النظام الطائفي في لبنان، وبقيَت المحاصصة وتكرّس الكباش السياسي من أجل تشكيل حكومة لن تبصر النور في الوقت القريب.

في العام 1991، أي بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بفترة قصيرة، انهار الاتحاد السوفياتي، لكن النظام اللبناني أعاد إحياء نفسه من جديد. حينها، انتقل أمراء الحرب من خلف متاريس القتال المسلح ليركنوا خلف متاريس التقاسم والمحاصصة والتقاتل السياسي على الحصص والمغانم في الدولة المتهالكة.

ووسط كل ذلك، نقول من جديد.. نعم، الدولار سينخفض، والليرة ستستقرّ والحياة ستنتظم من جديد.. فإليكم التاريخ..

في لبنان، الأيام تعيدُ نفسها.. فسيناريو “الطوابير” من أجل الحصول على الخبز هي نفسها التي برزت في ثمانينيات القرن الماضي، والمشهدُ نفسه أمام محطات الوقود شهده اللبنانيون في زمن الحرب. ولا يمكن أن نكون بعيدين عن مشهد تقلبات الدولار، فالصورة نفسها والحديث ذاته قبل أكثر من 30 عاماً. أما اليوم، فإن المشهد الإضافي هو الطوابير الطويلة أمام محلات بيع “المعسّل”، ومحلات الحلويات في رمضان التي تبيع كيلو “المشبّك” بـ24 ألفاً.. هذه الحلوى التي لم يكن أي أحد يعيرها اهتماماً في الماضي إلا نادراً، باتت اليوم غالية. أما الحلويات الأخرى فلن تذوقها إلا مرة واحدة في الشهر الكريم.

ورغم كل هذه الطوابير من أجل الحصول على هذه المنتجات “للتحلاية” و “للأراغيل”، فإن الناس فقيرة حقاً، ورواتبها فقدت قيمتها.. الدولار بـ13 ألفاً، والناس جائعة.. لكن اللبناني تعوّد.. وهنا الخطورة.. البعضُ يقول “بدي أمّن معسلاتي”.. “بدي آكل ليالي لبنان” الحزينة.. بدي آكل “عيش السرايا” التي يسكنها رئيس حكومة تصريف أعمال معطّلة. في لبنان، لا يمكن أن تنسى أن اللبناني يتأقلم مع الظروف، وهذا ما حصل خلال الفترة الماضية، إذ كان الدولار يتصاعد تباعاً والناس تكيفت وتعيش.. فما هو السر في عدم التحرّك؟ ما هو السر في عدم النزول إلى الشوارع؟ الإنهيار كبير والتجمعات أمام محلات “المعسّل” يفوق عدد المتظاهرين المنتفضين على الواقع الصعب في بعض التحركات الأخيرة.

يقولون أن اللبناني يحبّ الحياة.. ولكن هل التي يعيشها كل واحد منا هي فعلاً حياة؟ هل الوضع الذي يحيط بنا يؤكد أننا سنبقى صامدين إلى عمرٍ متقدّم؟

ومجدداً.. نؤكد أنّ الدولار سينخفض والليرة ستستقر والحياة ستنتظم من جديد.. والآن انكشفت الصورة.. فمثلما تعوّد اللبناني على كل هذه الظروف، فإنه قد يقع في الخطأ من جديد، ويجدد لهذه الطبقة السياسية التي أفقرته وجوّعته.. ولكن، الصحوة آتية لا محال..

قبل الانتخابات النيابية، ستسعى هذه الطبقة السياسية من جديد إلى تكريس نفسها، فلا أحد يريد الخروج مهزوماً.. سينتظمُ كل شيء قبل فترة قليلة من الانتخابات.. سيبدأ الدولار بالانخفاض تدريجياً.. المواد المدعومة ستتوفر في كل مكان.. لا أزمة محروقات.. التغذية بالتيار الكهربائي ستزداد.. سيقولون: “بدأنا بالاصلاحات وهذه الدلائل”.. سيحاسبون موظفاً صغيراً هنا وحاجباً هناك.. سينفذون مداهمة صورية على أحد مكامن الفساد.. وبعدها، يقولون للمجتمع الدولي: “لقد أنجزنا إصلاحات.. تعالوا واعطونا الثقة والمال”.. وما إن يتم ذلك، حتى ترى التحويلات المالية قد بدأت إلى لبنان لانعاشه بـ”قرار دولي”. وإثر ذلك، سيحين موعد الاقتراع، وتبدأ الشعارات الرنانة.. “البلد زبط يا جماعة”.. و “لولانا ما كان الوضع مشي”.. وهنا، تعود ثلة كبيرة من الناس لانتخاب الطبقة نفسها، في حين أن هناك شريحة واسعة من الناس قد “استاءت من وجود هؤلاء الساسة في الحكم.. لا ثقة بهم أبداً”.. ومع هؤلاء يبدأ التغيير.. أما بالنسبة لأولئك الذين جددوا لطبقة الفساد، فلم يتعلموا من مرحلة التجويع والافقار و”التعتير”.. لعلّهم يتفكرون ويفقهون.

لبنان