28-مارس-2024

كتب خالد البوّاب في موقع “أساس”:

على وقع ارتفاع منسوب التوتر الإيراني الإسرائيلي، اختار لبنان الدخول في متاهة سياسية حول تعديل مرسوم الحدود البحرية ورقمه 6433. حصلت الخطوة بعد جدالات وخلافات سياسية كثيرة تضمّنت حملة إعلامية على من كانوا يرفضون التوقيع. الوفد المفاوض هو من أصرّ على التوقيع، وكان أقنع رئيس الجمهورية بذلك قبل فترة طويلة، وكان أحد مستشاري الرئيس، طوني حداد، مقتنعاً بذلك أيضاً. لكن بحسب المعلومات رفض جبران باسيل فكرة المرسوم من أساسها في ذلك الوقت. الأمر الذي أدى إلى خلاف بين باسيل وحداد وانتهى بإخراج الأخير من القصر الجمهوري. واستمرّ الوفد اللبناني بطرح مساحة لبنان الموسّعة في جلسات التفاوض. وبعد العقوبات على باسيل أصبحت لدى رئاسة الجمهورية حماسة لتبنّي هذا الخيار والتصعيد بوجه الأميركيين، لإعادة تعويم العهد وباسيل.

أهمية ما يجري يرتبط بالتوقيت، إذ يحدث قبل زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل إلى لبنان. فالرئيس عون سيرى ما يمكن تحصيله من الأميركيين، وإذا كانت البوادر إيجابية يغضّ النظر عن توقيع المرسوم، سيببقيه في أدراج الحكومة التي لا يمكن أن تجتمع لإقراره. وإذا شكّل سعد الحريري حكومته فهو لن يوقّعه، كما أعلن سابقاً. أمّا إذا لم يكن اللقاء إيجابياً فقد يستمرّ عون في سياسة التصعيد، ليصل في النهاية إلى توقيع المرسوم حتّى من دون جلسة للحكومة. ويريد عون، من خلال الإصرار على إقراره في مجلس الوزراء، إحراج كل القوى، وانتزاع تواقيع وزراء حركة أمل، كي لا تأتي أيّ حكومة فيما بعد وتتراجع عن هذا المرسوم، إذا وقّعه عون استثنائياً، فلا يكون لتوقيع رئيس الجمهورية حينها أي أثر.

 

حكاية المرسوم 6433

الملف شائك جداً، حسّاس، ومعقّد. ولا بدّ من روايته منذ البداية. حكايته تعود إلى أكثر من عشر سنوات، وتحديداً أيام السفيرة الأميركية مورا كونيللي. حينها عقدت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اتفاقاً مع قبرص يتعلّق بترسيم الحدود، ويتضمّن بنداً ينصّ على أنّه لا يمكن لأحد الجانبين الذهاب إلى ترسيم مع إسرائيل من دون الاتفاق مع الآخر. لكنّ قبرص نقضت الاتفاق سنة 2011 وذهبت إلى مفاوضات ترسيم مع إسرائيل. حينئذ كان لبنان قد أعدّ المرسوم 6433 لترسيم الحدود اللبنانية من النقطة 23. هذا المرسوم والخرائط والإحداثيات وقّع عليها الجيش اللبناني، ولذا لا يمكن تحميل حكومات ذلك الوقت المسؤولية.

ينصّ المرسوم نصّاً واضحاً على قابلية تعديله عندما تدعو الحاجة أو يثبت أنّ للبنان مساحة أوسع. وكان الجيش اللبناني، بشخص العقيد مازن بصبوص، يُجري دراسات ويدقّق في الخرائط ليثبت أحقيّة لبنان بمساحة أوسع، تصل إلى حدود 2290 كلم مربعاً. بينما واشنطن بموجب مشروع هوف، الذي سُمّي فيما بعد “خطّ هوف”، اعتمدت آليةً للترسيم تمنح لبنان مساحة أقل بقليل، جاعلةً المساحة المتنازع عليها 860 كلم مربعاً.

استمرّ التفاوض على هذا الأساس، وبعد ضغوط أميركية مكثّفة، قرّر لبنان الذهاب إلى المفاوضات، التي حظيت جلساتها بغطاء دولي من الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة، لكن على أساس التفاوض على هذه المساحة فقط.

الوفد المفاوض أبلغ قائد الجيش ورئيس الجمهورية والرئيس نبيه بري بأنّه لا يريد التفاوض على مساحة 860 كلم مربعاً فقط، لأنّ المساحة التي يستحقّها لبنان أكبر بكثير، ولا بد من تحصيل المزيد من المساحة. حينئذ تلقّى الوفد دعماً لتحصيل أقسى ما يمكن تحصيله، والتفاوض على مساحة أوسع.

في إحدى الجلسات طرح الوفد اللبناني المفاوض خرائطه التي تُبيّن أنّ المساحة 2290 كلم مربعاً. فاستفزّ ذلك الجانبين الإسرائيلي والأميركي وعُلّقت المفاوضات. عندئذ أصرّ الوفد على ضرورة إصدار مرسوم بتعديل الحدود وتوسيعها وإيداعه لدى الأمم المتحدة لحفظ حقّ لبنان. لكنّ خلافاً داخلياً لبنانياً نشب بسبب المرسوم.

في البداية كان رئيس الجمهورية مؤيّداً للتعديل، وكذلك مستشاره طوني حداد الذي أصبح خارج القصر اليوم. وكان التنسيق والتفاهم كاملين مع أعضاء الوفد المفاوض. ثمّ أعدّ رئيس الجمهورية رسالة قبل أكثر من سنة ليبعثها إلى الأمين العام للأمم المتحدة تتضمّن هذا التعديل، لكنّ الرسالة سُحبت فيما بعد. وعندما كان هناك نيّة لطرح الموضوع على جلسة مجلس الوزراء أيام حكومة حسان دياب في شهر تموز الفائت، سُحِبَ البند أيضاً عن جدول أعمال الجلسة، ثمّ استقالت الحكومة.

قبل الوصول إلى المفاوضات، وقع تنافس سياسي على الفوز برعاية هذا المرسوم، أو كسب “بطولة” التفاوض وشرفه. فحاول رئيس الجمهورية أكثر من مرّة سحب الملف من يد الرئيس نبيه بري، لكنه لم ينجح. أمّا الرئيس سعد الحريري فتحدّث، بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية سنة 2018، عن هذا الملف متعهّداً أن يوليه عناية شخصية ويتولّاه بنفسه، وهو موقفٌ استفزّ برّي أيضاً. بقيت المفاوضات بيد رئيس مجلس النواب إلى حين إعلان اتفاق الإطار، فانتقلت مهمة التفاوض إلى الجيش اللبناني ورئاسة الجمهورية.

عند توقيع المرسوم، قال عون للجميع إنّه صاحب القرار. فقد وقّعه وزير الأشغال، ووزيرة الدفاع، ورئيس حكومة تصريف الأعمال، ثمّ أُحيل إلى رئاسة الجمهورية، التي أعادته إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء لإقراره في جلسة حكومية.

خلّفت آلية التوقيع إشكالات وسجالات سياسية وقانونية حول مشروعية وقانونية مثل هذا المرسوم. تقول مصادر وزارية في هذا الشأن إنّه في حالة تصريف الاعمال، كل المراسيم التي تصدر تكون خاضعة لهذه الطريقة، أي يوقّع المرسوم استنثائياً ويصبح نافذاً، وفي أول جلسة للحكومة الجديدة الأصيلة تُدرج على جدول أعمالها كل هذه المراسيم لإقرارها إقراراً نهائياً، وغالباً لا تتطلّب هذه المراسيم كثيراً من الوقت، لأنها تكون قد أصبحت نافذة. أمّا في هذه الحالة فإنّ المرسوم ينطوي على أهمية كبيرة، وهناك خلاف حوله، وقد لا توافق على إقراره الحكومة التي ستتشكّل، وهذا ما يريد عون تجنّبه أيضاً.

وإذا قرّرت الحكومة الجديدة التراجع عنه أو عدم إقراره، فذلك سيقود إلى مشكلة قانونية داخلية. وأمّا خارجياً ففي إمكان الحكومة أن ترسل تعديلاً جديداً للمرسوم والمساحة وتسجِّله لدى الأمم المتحدة. لكن تكمن المشكلة في الجانب السياسي المرتبط بالمرسوم. وفي هذا الإطار وجهتا نظر:

الأولى تقول إنّ إيداع المرسوم لدى الأمم المتحدة يثبّت حدود لبنان من جانب واحد، ويعزّز أوراقه التفاوضية. والمراد من ذلك إجبار شركة “إنرجين”، التي تنقّب في إسرائيل، على وقف أعمالها، لأنّ المنطقة التي تعمل فيها أصبحت منطقة نزاع. وهذا الأمر يمثّل عامل ضغط على إسرائيل وسيدفعها الى الإسراع في عقد جلسة تفاوض، وحينئذ سيكون لبنان قادراً على فرض شروطه.

الثانية تقول إنّ ذلك كان ممكناً لو حصلت هذه الخطوة قبل فترة، وتحديداً عندما فتحت إسرائيل دورة التراخيص. فلو أقدم لبنان على هذه الخطوة حينها، لما تمكّنت الشركات من العمل. وهذا ما حصل مع لبنان لدى إعلانه فتح دورة التراخيص في البلوك رقم واحد. وقتئذ اعترضت سوريا، وبسبب اعتراضها لم يتمكن لبنان من مباشرة العمل هناك. أمّا اليوم فإن لبنان قد تأخّر، وقد لا تمتنع الشركات عن الاستمرار بالعمل. هذا من الوجهة التقنية.

أمّا سياسياً فكان الموقف الإسرائيلي واضحاً بلجوئه إلى خيار التصعيد ضد لبنان. ولن يكون الموقف الأميركي بعيداً من الموقف الإسرائيلي. وكلا الموقفين سيؤديان إلى ممارسة المزيد من الضغوط السياسية وغير السياسية على لبنان، وربما كان لرسائل التحذير أثرها أيضاً في عدم توقيع عون. وهنا لا يمكن فصل “تراجع” عون و”تمهّله” عن زيارة ديفيد هيل إلى لبنان. إذ إنّه سيبحث في هذا الملف بالتأكيد، بينما ميشال عون سيكون حاملاً لورقة تفاوضية يعتقد أنّها قوية.

تفاصيل “الفخّ”

لا تزال خيوط كثيرة غير واضحة في مسألة المرسوم وطريقه ومراميه، والبعض يتخوّف من فخ يُنصب للبنان. خصوصاً إذا أصرّ الإسرائيلي على التنقيب والعمل، فيما لبنان سيكون غير قادر على ذلك.

حزب الله في حالة صمت كبرى، ومنذ البداية اتّخذ موقفاً ذكياً بقوله: “نقف خلف الدولة وما تقرّره”. لكنّ السؤال الأساسي المطروح: إذا أودع لبنان لدى الأمم المتحدة مرسوماً ينصّ على أنّ المساحة اللبنانية هي 2290 كلم مربعاً، وعندما يحين موعد المفاوضات، يتمكّن لبنان من تحصيل 1600 كلم مربع من هذه المساحة، أي ضعف الـ860 كلم مربعاً تقريباً، فماذا سيكون مصير المساحة الباقية البالغة 890 كلم؟

هذه هي “مزارع شبعا البحرية الجديدة”، التي قد يقول حزب الله إنّه متمسك بالسلاح لتحريرها. بينما لبنان سيكون قد تراجع من 2290 إلى 1600 مثلاً أو حتى أقل، وهذه هي “الخيانة” التي تحدّث عنها نبيه برّي.

في الجلسة الوحيدة التي استقبل فيها رئيس مجلس النيابي الوفد العسكري المفاوض بحضور وزيري الخارجية والدفاع طرح برّي سؤالين:

الأوّل: ماذا نفعل إذا رسمت اسرائيل خطّاً جديداً يصل إلى صور؟

لا جواب.

السؤال الثاني: إذا اعتبرنا أنّ ما تقومون به ورقة تفاوض تعطي دفعاً للجانب اللبناني. ماذا لو عرض علينا 860 كلم بحرية كما كنا نطالب منذ 10 سنوات. هل نقبل؟

جاءه الجواب بالموافقة. عندها وقف الرئيس برّي وأنهى الجلسة..

في الجانب التقني يبدو الوفد المفاوض واثقاً من ملفه ووثائقه، لكن في السياسة سيكون الأمر مختلفاً إذا قرّرت واشنطن ممارسة المزيد من الضغوط. يعتبر بعض من هم في لبنان أنّ هذا الملفّ يرقى إلى مستوى اتخاذ قرار الحرب والسلم. وهذا ما قاله سليمان فرنجية للزميل عماد مرمل في “الجمهورية” أمس، حين أكّد أنّ “وزير الأشغال ليس هو من يقرّر الحرب والسلم بل مجلس الوزراء مجتمعاً”.

لذلك فالمرسوم يحتاج إلى توافق شامل وقرار من مجلس الوزراء، وكثير من الأسئلة تطرح نفسها: ماذا لو استمرّت إسرائيل بعمليات الحفر والتنقيب بعد إيداع لبنان المرسوم الجديد في الأمم المتحدة؟ ما هي الأساليب التي سيلجأ إليها لمنع إسرائيل من الحفر في منطقة يعتبرها لبنان تابعة له؟

هنا تحديداً تكمن إشكالية “السلم والحرب”: فمن سيكون صاحب القرار فيها؟ وكيف سيتخذ القرار؟

الملفّ حساس إلى درجة بعيدة، ولا يمكن استشراف ما سينجم عنه سريعاً، لكن الأيام المقبلة ستكون كفيلة بتوضيح الصورة أكثر للتراجع أو الانتحار!

MTV