29-مارس-2024

لا يختلف إثنان على أنّ التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان والإدارات والمؤسسات كافة يشكّل المدخل الأساسي للإصلاح، ومعبراً إلزاميًّا لاستعادة الودائع ولمعرفة من أهدر الأموال وأوصل مالية الدولة إلى الحضيض، كما لا يختلف إثنان على أنّ عمليات نهب المال العام على مدى سنوات، وتجميع الثروات، وإفلاس البلد وتجويع اللبنانيين، لا يحتاج إلى تدقيق جنائي لكشف المرتكبين فحسب، بل إلى محكمة دولية تحاكم سارقي مال الشعب. لكن أن يتحوّل التدقيق الجنائي إلى عملية تمويه وخداع وتسجيل نقاط في معركة هذا الفريق بوجه ذاك، وتبرئة النفس من المسؤوليات التاريخية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان، لا يدفع باتجاه حصول التدقيق واسترجاع الودائع.

يعمل “التيار الوطني الحر” على تسويق مقاربة مفادها، أّنه يقاتل وحيدًا في سبيل التدقيق الجنائي، وأنّ القصة ليست قصة حكومة بل تدقيق جنائي يعمل الآخرون على الإطاحة به، ويكرر رئيسه جبران باسيل في كلّ إطلالة أنّه بدون تدقيق جنائي “مش رح يمشي الحال”، كذلك يفعل رئيس الجمهورية في كلّ مناسبة، آخرها في خطابه الأخير بعد ساعات على لقائه وزير الخارجية المصري سامح شكري، بحيث خلا خطابه من أيّ إشارة إلى الحكومة المعطّلة، وخصّصه للتدقيق الجنائي الذي هو “أصعب من معركة تحرير الأرض”.

هذا الجدل الحاصل حول أولوية التدقيق يعيد إلى الأذهان معركة لا تقل ضراوة قادها قبل سنوات التيار نفسه بعنوان “الإبراء المستحيل” والـ 11 مليار دولار”، لم تقتصر على حرب البيانات، بل استعمل فيها كلّ الأسلحة بما فيها نبش القبور، على شاشات التلفزة وفي المجلس النيابي حصلت اشتباكات وعركات بين “الوطني الحر” و “تيار المستقبل”، على سبيل المثال لا الحصر، نذكر مشهد التضارب والشتم في لجنة الأشغال السابقة بين النائب السابق جمال الجرّاح والنائب زياد أسود، وعبارات “أنت واحد حرامي وسارق الكهربا”، ليجيبه الآخر «إنت لي سارق الكهربا، إنت ومعلمك” لا “إنتو سارقين البلد”. ثمّ ما لبث هذا الإبراء أن أصبح ممكنًا، بفعل التسوية الرئاسيّة التي أوصلت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، منذ ذاك الحين لم نعد نسمع بالإبراء الذي انقلب ممكنًا.

هنا نسأل هل نحن أمام استنساخ المعركة المالية نفسها للأهداف نفسها؟ وهل تنتهي معركة التدقيق الجنائي كما انتهت مثيلتها في “الإبراء المستحيل”؟
ترى مصادر اقتصادية ومصرفية أنّ عقد التدقيق الجنائي “وعلى رغم ما شابه من ثغرات منذ البداية، أقلّه في تلزيمه لشركة غير متخصصة بالتدقيق الجنائي واستبعاد شركة “كرول” المتخصصة، سيستغرق سنوات عديدة، خصوصًا إذا ما شمل المؤسسات والإدرات والصناديق كافة”. وتسأل هل يُترك البلد بلا حكومة في زمن الإنهيار ربطًا بالتدقيق؟ ألا يتطلب التدقيق الجنائي حكومة فعلية قادرة على محاسبة معرقلي التدقيق وعزلهم، سواء أكان حاكم مصرف لبنان أم غيره من مسؤولي الإدارات، بدل الحكومة الحالية التي تتذرّع بتصريف الأعمال؟ ألّا يتطلب التدقيق قضاءً قادرًا يواكب عمل شركة التدقيق ليحاسب المرتكبين؟ ألا يستدعي ذلك الإفراج عن التشكيلات القضائية؟

استنادًا إلى تجربة “الإبراء المستحيل”، هل تنتفي الحاجة إلى التدقيق الجنائي فيما لو وافق الرئيس المكلف على منح التيار الوطني الحر الثلث المعطل في الحكومة؟ هل يراهن الوطني الحر على حصر التدقيق في حسابات المركزي؟ ألا يتطلب الهدر في قطاع الكهرباء تحقيقًا وهو الذي يشكّل وحده حوالي نصف الدين العام؟ ألا تتطلب تدقيقًا المليارات التي دُفعت على السدود الفاشلة من بلعة إلى المسيلحة وجنة، وصولًا إلى بسري الذي أوقف العمل به مؤخرا بعدما كلّف المليارات؟ ألا تتطلب تدقيقًا بواخرُ الكهرباء وصفقاتها دون المرور بهيئة المناقصات؟ خصوصًا أنّ مقارنةُ مع أسعار بواخر الشركة ذاتها في غانا وباكستان تظهر أنّ لبنان يدفع زيادة تصل إلى 800 مليون دولار سنويًا؟
“خديعة العصر معزوفة التدقيق الجنائي” هكذا يوصّف المراقب الإقتصادي الجدل الحاصل حول التدقيق الذي أُدخل في بازار المزايدات السياسية، وبدا لزومًا يلزم في سياسة الهروب إلى الأمام، وصرف النظر عن جوهر الأزمة المتمثّلة بتعطيل قيام سلطة تنفيذية تنفّذ الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي، وفي مقدمها ملفا الكهرباء والتهريب.

لبنان 24