26-أبريل-2024

كتبت ملاك عقيل في “أساس ميديا”:

كمن يرقص فوق جثث ضحاياه، تُمعن الطبقة السياسية، المعنية بإخراج اللبنانيين من دائرة “الخطر الشديد”، في تجاهل عامل الوقت الذي يمضي منذ فترة طويلة في اتجاه معاكس لمصالح الشعب اللبناني… لكن ليس ضد “المستثمرين” في الفوضى، إمّا لمكاسب شخصية، وإمّا في إطار الرهان على متغيّرات إقليمية لصالحهم.

وهو واقع أشار إليه مباشرة البطريرك الماروني بشارة الراعي في عظة الأحد بتأكيده أنّ “المسؤولين المعنيين دستورياً بتشكيل الحكومة أظهروا للجميع داخلياً وخارجياً أنّهم لا يريدون تشكيل حكومة لغايات خاصة في نفوسهم وبكل واحد منهم. فالتقوا في مصلحة مشتركة هي التعطيل”، قائلاً بصيغة التأديب: “ألّفوا حكومة من دون لفّ ولا دوران، واخجلوا من المجتمعين العربي والدولي ومن الزوّار العرب والأجانب”.
وفيما تشمل الإشارة إلى “المسؤولين المعنيين دستورياً” بتأليف الحكومة، كلّاً من ميشال عون وسعد الحريري، إلا أنّ القراءة ما بين السطور توضّح أنّ الرسالة البطريركية كانت تستهدف بعبدا مباشرة والنائب جبران باسيل، حيث إن “لائحة” العراقيل تنطبق على رئيس الجمهورية ورئيس “التيار” الفولاذي وحزب الله.

وقد لاقتها كلمة مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، الذي تحدّث فيها عن “الأيادي الخبيثة التي تعمل في الخفاء على عرقلة الجهود العربية وإفشال المبادرة الفرنسية، وتحاول القيام بابتزاز سياسي لا مثيل له”، مؤكداً أنّ “البلاد ليست رهينة أزمة دستورية، بل ضحية الاستئثار والانهيار والارتهان للمحاور”.

وفي سياق الفوضى، التي تفرّخ أزمةً إثر أزمة مع كل يوم تأخير عن ولوج باب الحلّ، تقدّمت معضلة التدقيق الجنائي على كل الأزمات، في ظل معركة فتحتها بعبدا ضد كل خصومها، لتجد نفسها أمام “خصم” غير تقليدي مع تحذير بكركي رئاسة الجمهورية مباشرة من مغبّة الإصرار على السير بالتدقيق الجنائي قبل تأليف الحكومة في موقف تقول مصادر البطريرك بأنّه “بهدف تحمّل المسؤوليات في ايجاد حكومة فورًا”.

توضح مصادر بكركي أنّ الراعي “لم يتحدّث مباشرة في موضوع التدقيق، بل قال ما معناه: تريدون تدقيقا جنائيًا؟ فإذاً شكّلوا حكومة. والبطريرك حكمًا ليس ضدّ حصول هذا التدقيق، وسبق أن أكد في عظات سابقة تأييده له. لكن إذا كانوا جدّيين في موضوع التدقيق، فيجب أن يكون هناك سلطة تحاسب. وإلا فكيف يمكن أن يكون هناك شركة دولية تعمل في لبنان وليس هناك من حكومة تحاسبها وتشرف على أعمالها؟”. وتابعت المصادر: “الراعي لم يدافع عن رياض سلامة أو أي موظف ومسؤول سياسي، فيما البطريرك سبق الجميع وقبل وصول هذا العهد بحديثه عن ضرورة مكافحة الفساد لذلك لا يجب على أحد أن يزايد عليه”.
وتلاحظ مصادر البطريرك أنّه “كلما كَبر دور الراعي وزاد الالتفاف حوله وكلما طَرَح القضايا الأساسية، تزيد الحملات عليه، كأنّه يشكّل حالة إزعاج لهم. وليس المقصود التيار الوطني الحر فقط بل كل من يعارض دور الراعي ومبادراته”. وتشير المصادر إلى “مجموعة تتحرّك ضد البطريرك، التيار جزء منها، وتهاجمه كلما أطلق مواقف لا تعجبهم، لكن عليهم أن يعرفوا أنّ هذه الهجومات لن تؤثر على مواقفه”.
ويتمسّك رئيس الجمهورية بإعادة عقارب تشكيل الحكومة الجديدة إلى الوراء، باشتراط التدقيق الجنائي ممرّاً إلزامياً لتأليفها، يُضاف إليه شرطُ “المعايير الدستورية والميثاقية” الواجب على الرئيس المكلّف سعد الحريري “احترامها”.
وقد بات خطاب رئاسة الجمهورية أكثر وضوحاً وتعكسه مصادرها بالإشارة إلى “تمسّك سعد الحريري بحكومة له فيها النصف زائداً واحداً، يكون وزير المال فيها من حصة الرئيس نبيه بري. وقد كان من أوّل الأسماء المحسومة في الحكومة، و”بروفيله” معروف في حماية المصارف والتغطية على سياسات مصرف لبنان على مدى عقدين. وهذا لا يعني سوى تطيير التدقيق الجنائي”.
وقوف البطريرك الماروني علناً بوجه اشتراط التدقيق الجنائي مدخلاً إلى تأليف الحكومة كان عاملاً مستجدّاً في تكريس تباعد المسافات والأولويات بين بعبدا وبكركي، وأشعل حرباً عونية ضدّ البطريرك ذكّرت فوراً بمرحلة الـ1989.
وقد ردّت أوساط مؤيّدة لبكركي على الهجوم العوني عالي السقف ضدّ الراعي باعتباره الحلقة الأخيرة من سلسلة المعارك التي فتحها عون والتيار بوجه الجميع، خصوصاً القوات وتيار المستقبل والرئيس بري، مشيرةً إلى أنّ “المواجهة مع بكركي تختلف عن غيرها بكونها الأصعب والأكثر كلفة من حيث أنّها تستطيع رفع الغطاء سياسياً ومسيحياً عن رئاسة الجمهورية بسبب انحراف بعبدا عن مسار الإنقاذ الفوري الذي لا يتحمّل شروطاً مرتبطة بحسابات شخصية وسياسية ومزايدات”.
تضيف المصادر: “الراعي الذي لا يزال يصرّ على موقفه من استقالة أو إقالة رئيس الجمهورية لاعتبارات دستورية، لن يكون قادراً على تغيير رأي الشريحة العظمى من اللبنانيين والمسيحيين في أنّ هذا العهد قد أخفق في توفير أدنى مقومات الاستقرار للبنانيين، لا بل عرّض حياتهم للخطر بسبب التعنّت والمطالب “الشخصانية” الخارجة عن الدستور في تأليف الحكومة، مؤدّياً إلى تأخيرٍ كرّس حالة الانهيار الداخلي وفقدان الثقة الدولية بلبنان”.

في المقابل، فسّر أحد نواب “التيار الوطني الحر”، وهو قريب من باسيل، موقف البطريرك في مسألة التدقيق الجنائي بأنّه “وجهٌ آخر من وجوه حماية سارقي المال العام والتغطية الواضحة على رياض سلامة وشبكة المصارف التي ابتلعت أموال اللبنانيين، فيما المطلوب أن يكون رأس الكنيسة إلى جانبنا في هذه المعركة المصيرية والوجودية”، سائلاً: “ومن قال للبطريرك إنّ المطلوب تدقيق انتقائي وليس شاملاً، على ما جاء في عظته؟ وما سرّ مطلب البطريرك بأن يكون التدقيق بالتوازي في مصرف لبنان وكل الإدارات والوزارات؟ وفي هذا تبنٍّ صارخ للمنظومة التي تبتغي من هذا المطلب نسف التدقيق، فيما “الشغل” الفعلي يجب أن يبدأ أوّلاً من مصرف “رياض سلامة”، ثمّ يكمل إلى كل الوزارات، ولتكن وزارة الطاقة أوّلاً”.

وتفيد معلومات لـ”أساس” أن نواباً من “التيار” دخلوا على خط تخفيف التشنّج بين بعبدا وبكركي. وتوافق مصادر التيار على أنّه “من الخطأ فتح معركة لا طائل منها ضدّ بكركي، فيما الأمر الملحّ اليوم هو تشكيل حكومة فوراً تأخذ على عاتقها القرارات المصيرية والمهمة، بدءاً من استئناف التفاوض مع صندوق النقد الدولي إلى التدقيق الجنائي وبدء ورشة الإصلاحات”.

وتغريدة “الجنرال ميشال عون” التي قال فيها: “الفاسدون يخشون التدقيق الجنائي، وأمّا الأبرياء فيفرحون به”، صبّت النار على زيت الخلاف بين الطرفين، واعتُبرت، برأي متابعين، ردّاً مباشراً على البطريرك من خلال ضمّه إلى لائحة “الفاسدين” الذين يضربون التدقيق الجنائي لحماية فاسدين آخرين. وكان لافتاً أن يلاقي حسابُ رئاسة الجمهورية الرسمي تغريدةَ “الجنرال” بـ”ريتويت”.

يُذكر أنّ حساب “الجنرال” على تويتر يعود لميشال عون حين كان لا يزال رئيساً لتكتل التغيير والإصلاح، وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية أبقى على حسابه “القديم” بالتوازي مع الحساب الرسمي لرئاسة الجمهورية.

البعض ينتقدون هذه الازدواجية غير المبرّرة، على اعتبار أنّ رئاسة الجمهورية موقع لجميع اللبنانيين، فيما الحساب الخاص التابع لـ”الجنرال” يوحي بأنّه رئيس لفريق واحد: “هو عهد التناقضات بكل الموازين. حتّى الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية نشر، بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وضمن سيرته الذاتية، شهادة ميشال عون كاملةً في الكونغرس الاميركي عام 2003، التي تضمّنت مواقف حادّة جداً ضد حزب الله وسوريا”.

MTV