25-أبريل-2024

كتبت يارا أبي عقل في “المركزية”:

“أنا العماد ميشال عون”. على مدى السنوات الست الماضية، كان رئيس الجمهورية يستخدم هذه العبارة أو بالأحرى يلجأ إليها للإجابة عن الأسئلة “الصعبة التي كان الاعلاميون يطرحونها عليه في خلال فترات الأزمات الكثيرة في عهده الذي يودعه العونيون بحسرة، على عكس المعارضين، وهم كثر.

على أن أحداً لا يشك في أن وراء جواب الجنرال الذي ينطبق عليه القول “ما قل ودل” حنكة سياسية إضافة إلى حنين إلى زمن غابر كان فيه “العماد ميشال عون” هو الحدث والرقم الصعب في معادلات الأزمنة الصعبة. ذلك أنّ الرئيس عون، كما الكثير من معاونيه واللصيقين به يعرفون تمام المعرفة أن التاريخ اللبناني الحديث، لا سيما منه الفصل المرتبط بالحرب الأهلية البغيضة، سيفرد لقائد الجيش “المتمرد” على الميليشيات والوجود السوري واتفاق الطائف صفحات تخلّد صور المحتشدين بالألاف أمام قصر بعبدا في انتظار نظرة أو كلمة من صاحب شعار “يا شعب لبنان العظيم”، الذي تقول واحدة من حكايات كثيرة حيكت حول الجنرال وأقرب المقربين إليه أن وراءه يقف الشاعر الكبير سعيد عقل، المؤمن حتى العظم بالوطن اللبناني وفرادته ونهائيته.

غير أن هذه الصورة التي تنفخ في نفوس نسبة لا يستهان بها من الشعب اللبناني رياح النصر والبطولة في زمن الخنوع، تبدو على نقيض تلك التي يتركها رئيس الجمهورية الثالث عشر بعد الاستقلال عن لبنان. ولفهم هذا التناقض المخيف بين جنرال التاريخ القريب ورئيس الحاضر المرير، لا بد من استعادة بعض محطات مسيرة ستبقى استثنائية، وإن اختلف تقويمها بين السلبي والايجابي.

وفي السياق، لا شك في أن من حق الجنرال على التاريخ أن يعترف له بأنه نجح في اختراق الساحة والذاكرة الجماعية المسيحيتين، وأن يحجز لنفسه مكانا في حناياهما، على رغم أن زعماء ورؤساء كثيرين سبقوه إلى حفر صورهم في الوجدان المسيحي، بينهم الرئيسان فؤاد شهاب وكميل شمعون والأسطورة بشير الجميل، وبطل المعارضة النزيهة العميد ريمون إده. قد يقول قائل إن العماد عون لم يسع إلى إحلال نفسه بديلا عن الشخصيات الآنفة الذكر، بل إنه استفاد من النقمة الشعبية على الميليشيات وممارساتها، ليحمل خطابا يدغدغ الأوتار المسيحية الحساسة، حاملا لواء الدولة والجيش والشرعية. على أن المراحل اللاحقة لم تكن وردية إلى هذا الحد، حيث أن الرجل فشل في منع حمام الدم المسيحي – المسيحي، وانبرى إلى حرب تصفية

الحسابات مع خصمه الأول، زعيم “القوات اللبنانية” سمير جعجع، مع العلم أن الرجلين سجلا نقطة التقاء نادر على رفض السير باتفاق الطائف (كل لاعتباراته الخاصة) قبل أن يركب جعجع قافلة المؤيدين، بينما بقي عون على موقفه المعارض. ولكن القرار كان قد اتخذ: الطائف وضع على السكة وعلى “المتمردين” تحمل مسؤولية خياراتهم. فكان 13 تشرين 1990، الذي تلاه نفي الجنرال إلى فرنسا تحت وابل القذائف السورية التي أمطرت قصر بعبدا بغض طرف دولي واضح. أما جعجع، فدخل السجن على وقع حل القوات اللبنانية… إلى أن دقت ساعة التسوية فعاد الأول إلى لبنان، والثاني إلى الحرية.

تنفس المسيحيون الصعداء وأعطوا العماد عون، “الجنرال” الساكن في الذاكرة والوجدان، ورقة رابحة كبيرة بحجم التسونامي البرتقالي الذي قاده إلى تمثيل 70% منهم إلى حد أتاح له النوم على الحرير الشعبي وتعطيل الانتخابات الرئاسية على مدى عامين على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة”، لتحقيق طموح سياسي ورئاسي مشروع، لكن ذي كلفة عالية. على أي حال، دارت الأيام دورتها، وتقلب المشهد السياسي والجنرال لا يزال على الشعار عينه “أنا العماد ميشال عون”، لتبرير الحق في الوصول إلى الرئاسة وتحقيق الحلم المسيحي الخامد في النفوس منذ عقود.

ولكن… وصل الجنرال إلى بعبدا ذات إثنين تشريني خريفي لم يكن أحد ليفكر أنه سيكون إنطلاقة عهد قد يصح وسمه بأنه لم يمر مرور الكرام على الوطن. إلا أن ذلك لا يبرر حصرا بالأزمات التي عصفت بالبلاد والتي لا يتحمل العهد مسؤوليتها، كمثل جائحة كورونا التي غزت العالم ولم توفر لبنان. بل إن ما يفسر هذه الصورة يكمن في أن الرئيس المفترض أن يكون “قويا” لم يتخذ الخطوات التي كان من المتوقع أن يقدم عليها بعدما نادى بها طويلا من على منبر الرابية التي يعود إليها اليوم محاطا بناسه وأنصاره.

وإذا كان من الصعب على الرئيس أن يبادر إلى خطوة بحجم الدعوة إلى تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية- مع العلم أن ذلك كان في صلب معاركه السياسية في الرابية- لعدم فتح الباب على إعادة النظر بالطائف، فإن بعض المعارضين يأخذون على الرئيس عون وفريقه إحجامه عن فتح ورشة البحث في الاستراتيجية الدفاعية، خصوصا وأنه الحليف الأول والأهم لحزب الله. وفي السياق، يؤكد هؤلاء المعارضون أن مبادرة كهذه لم تكن لتنهي التفاهم القائم بين الطرفين منذ العام 2006 لا لشيء إلا لأن الحزب في حاجة إلى الغطاء المسيحي الواسع الذي يوفره له التيار، وهي مهمة لا يمكن أن ينفذها على أكمل وجه زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، الحليف المسيحي الآخر للحزب. بدليل أن الضاحية لم تخاطر بعد بلعب ورقة فرنجية الرئاسية، من دون الحصول على الضوء الأخضر من رئيس التيار جبران باسيل، الرجل القوي في العهد القوي، الذي نجح في إثبات نفسه ممرا إلزاميا في الرئاسة والحكومة، وهو أمر عطل على العهد كثيرا من الانجازات، لكنه مر “متل العسل على قلب الجنرال”. باعتبار أن الأخير دافع كثيرا عن باسيل ومطالبه في تأليف الحكومات، إلى حد دفع الرئيس سعد الحريري إلى التخلي عن مهمة التشكيل، واستعداء الساحة السنية وكثير من مرجعياتها وهو سيناريو استعيد في الأشهر الأخيرة مع الرئيس نجيب ميقاتي، مع فارق أن الأخير لم يبد أي استعداد للاستسلام في مواجهة الثنائي الرئاسي… خصوصا أنه متقين من دعم الثنائي الشيعي له ، لا سيما منه الرئيس نبيه بري، الخصم الأهم للرئيس عون وصهره، وأول من سيتنفسون الصعداء اعتبارا من تشرين الثاني المقبل.

على أن كل هذا في واد… وما جرى في خضم الثورة والانهيار وانفجار مرفأ بيروت في مكان آخر. وهما مكمن مأخذ كبير من خصوم الرئيس وأهالي الضحايا والثوار على العهد الذي كان وعد بانتشال البلاد من كبوتها وجهنمه، من دون أن ينجح في ذلك. وهنا، لم تكن الصلاحيات هي التي تنقص، حيث أن الرجل علم بخطر نيترات الأمونيوم المخزن في المرفأ، من دون أن يسعى إلى منع الكارثة قائلا إن “لا صلاحيات له” على هذا المرفق الحيوي، ولم يسع لا إلى حماية المحقق العدلي طارق البيطار، الذي وجد نفسه في مرمى باسيل بفعل بعض التوقيفات في الملف، ولا إلى تنفيذ مطالب الثورة، بل دعا ناسها، على ما تذكر مصادر سياسية، إلى الهجرة ما لم يجدوا أن في لبنان قادة “اوادم”.

اليوم يتسعد الجنرال ميشال عون لمرحلة جديدة من حياة مديدة، فهل يؤمن خروج الرئيس من بعبدا عودة جنرال الرابية إلى خطابه المعتاد ليصح من جديد شعار القوة الذي حمله ورفع لواءه؟ سؤال تترك الاجابة عنه لقابل الأيام.