كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لم يسلك «اتفاق الطائف» طريقه إلى التطبيق منذ إقراره، وقد استغلّ النظام السوري انشغال الرياض والعواصم العربية باجتياح الرئيس صدام حسين للكويت، ليضع يده بالكامل على لبنان ويحكم قبضته على بيروت من دمشق.
النقاش في طبيعة النظام السياسي المطلوب للبنان هو حقّ لكل فريق سياسي انطلاقاً من رؤيته لما هو الأفضل لهذا البلد، ولكن لا يجب ان يسهى عن بال أحد، أنّ أفضل صيغة دستورية في العالم غير قابلة للتطبيق في حال لم يتمّ التوافق حولها بين مكونات الوطن، وفي ظلّ فريق مسلّح يتمسّك بسلاحه خارج إطار الدولة، بما يحول دون تطبيق أي صيغة دستورية.
فالتركيز يجب ان يبقى موجّهاً في اتجاه جوهر المشكلة، أي «حزب الله»، والمستفيد من حرف الأنظار عن هذه المشكلة هو مسبِّبها، وأي كلام عن صيغة دستورية جديدة يُفترض ان يُربط علناً وجهاراً بهذا الفريق، سعياً إلى إنهاء مفاعيل تأثيره على حياة جميع اللبنانيين خلافاً لرغبتهم وإرادتهم، في اعتبار انّ فرض صيغة عليه أصعب بكثير من الفصل والانفصال عنه.
وفي مطلق الحالات، من الواجب والضروري التذكير بـ«اتفاق الطائف» وضرورة تطبيقه لثلاثة أسباب أساسية:
ـ السبب الأول، لأنّه يجب الارتكاز دوماً إلى النصوص المرجعية التي توافق عليها اللبنانيون، واستند إليها مجلس الأمن في قراراته الدولية، فضلاً عن انّه في حال سلّمنا جدلاً في تعديل الدستور، فهذا التعديل لا يمكن ان يحصل من عدم أو فراغ، بل يجب ان يرتكز على النصوص الموجودة، ومن هنا ضرورة التمسُّك بالطائف.
– السبب الثاني، لأنّ المطالبة بتطبيق «اتفاق الطائف» تندرج ضمن المواجهة السياسية مع «حزب الله» الرافض تطبيق هذا الاتفاق الذي بدأ الانقلاب عليه من خلال رفضه تسليم سلاحه بحجة انّه مقاومة، وحاول الحزب التعويض عن غياب النص الدستوري بالبيانات الوزارية سعياً إلى شرعية مفقودة لسلاحه، وبالتالي التمسُّك بالطائف يُزعج الحزب الذي يرفض تطبيقه ويريد التنصُّل منه.
– السبب الثالث، لأنّ اتفاق الطائف حصل بتوافق بين اللبنانيين ورعاية عربية ودولية، ولا يجوز التخلّي عن دستور يحظى بشرعية داخلية وخارجية، بل من الأولى تحميل المجتمعين العربي والغربي مسؤولية التزامهما تطبيق دستور تمّ الانقلاب عليه، وهذه نقطة قوة كبرى لا يجب إهمالها والاستخفاف بها والتخلّي عنها.
ولكن التمسُّك بـ«اتفاق الطائف» لا يفيد في شيء من دون الوصول إلى ميزان قوى سياسي قادر على وضع «حزب الله» أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الوصل تحت سقف الطائف، وإما الفصل رفضاً لعيش مشترك بالإسم والشكل، فيما هو بالفعل والجوهر العيش في دولة «حزب الله».
وبما انّ المواجهة الأساسية اليوم هي ضدّ سلاح «حزب الله» الذي يمنع تطبيق «اتفاق الطائف»، فمن الأولى ان تتركّز على ثلاثة مستويات أساسية:
ـ المستوى الأول، إضعاف تأثيره وحضوره داخل الطوائف المسيحية والسنّية والدرزية، وهذا ما حققته الانتخابات النيابية الأخيرة التي أخرجته كلياً من بيئة الموحّدين الدروز، وفقد المدافعين عنه داخل البيئة السنّية، وتراجع تمثيل حليفه المسيحي الأساسي «التيار الوطني الحر»، وهذا التوجُّه يجب البناء عليه ومراكمته وتعزيزه ومواصلة الدفع في اتجاه مزيد من إضعاف فعاليته داخل هذه الطوائف.
– المستوى الثاني، حضّ الرأي العام العابر للطوائف على القيام بدوره بالضغط والتعبير وتحمُّل مسؤولياته ومواصلة ما بدأه في انتفاضتي 14 آذار و17 تشرين، حيث أظهر عن فعالية استثنائية، ولا يجوز ان تكون موسمية، إنما يُفترض استمرارها بأشكال مختلفة، ولو لم ترتق إلى حجم انتفاضة، لأنّه قد يَسهل على «حزب الله» استهداف أحزاب الطوائف، إنما يصعب عليه استهداف الرأي العام العريض.
– المستوى الثالث، تشجيع القوى والشخصيات الشيعية المعارضة لسياسة الحزب والتلاقي معها وتفهُّم أوضاعها وظروفها وسقوفها، خصوصاً انّ أكثر ما يقلقه تراجع حضوره داخل بيئته المذهبية، الأمر الذي يتطلب مدّ اليد إلى الشريحة الشيعية المعترضة على سياساته، لأنّه من دونها ومن دون تحقيق هذا الاختراق الاستراتيجي يحتفظ بورقة قوة أساسية من خلال إطباقه على قرار الطائفة واحتفاظه بـ»الفيتو» الشيعي واستسهاله التدخُّل في الطوائف الأخرى.
وإذا كانت طهران قد نجحت في مدّ نفوذها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان من خلال القوى التي تدور في فلكها وتنفِّذ مشروعها وفي طليعتها الكتل الشيعية المؤمنة بولاية الفقيه، فإنّ التحدّي الأساس في كل هذه الدول يكمن في تفكيك منظومته السياسية وإضعاف كل من يتحالف معه. وأما الرهان الأساسي في لبنان فيجب ان يكون، في موازاة تجريده من تحالفاته في كل الطوائف، على المسيحيين الذين يشكّلون «بيضة قبّان» اتفاق الطائف لخمسة اعتبارات أساسية:
ـ الاعتبار الأول، كون لبنان في شكله الحالي والنموذج القائم عليه هو فكرة مسيحية وتحقّقت باندفاعة مسيحية بالشراكة مع المسلمين، وتغيير دور لبنان يشكّل ضرباً لدور المسيحيين التاريخي. فالدروز في استطاعتهم التكيُّف مع «حزب الله»، والسنّة يشكّلون الغالبية الساحقة داخل العالم الإسلامي، فيما الخسارة الموصوفة ستلحق بالمسيحيين الذين سيكون مصيرهم الهجرة لتعذُّر عيشهم في نظام لا يشبه القيم التي ناضلوا تاريخياً من أجلها وفي طليعتها الحرية والديموقراطية والاقتصاد الحر ونمط العيش والحياد عن محاور النزاع.
– الاعتبار الثاني، كون من واجه وضع اليد الفلسطينية ومن ثمّ السورية هم المسيحيون، ومواجهتهم لم تكن لاعتبارات سلطوية، إنما وجودية وتتعلّق بهوية لبنان ودوره، ويشكّل «حزب الله» استمراراً للخطر نفسه على طبيعة الدولة اللبنانية ولكل فكرة الدولة والسيادة والشراكة والحياد، ومن هنا المواجهة المسيحية لمشروع الحزب هي بديهية وطبيعية، لأنّه يمثِّل النقيض لرؤيتهم لهذا البلد.
– الاعتبار الثالث، كون تفكُّك 14 آذار جعل المسيحيين عموماً و»القوات اللبنانية» خصوصاً رأس حربة التصدّي للمشروع الإيراني في لبنان، هذا المشروع الذي يتخذ من فريق مسيحي الغطاء له، وهذا الفريق المتمثِّل بـ»التيار الوطني الحر» تحوّل رأس حربة مشروع «حزب الله» في لبنان. ولا يُخفى على أحد انّ الحزب وضع كل ثقله في الانتخابات النيابية الأخيرة من أجل ان يحافظ له على حجم نيابي معيّن، وقام بتبديته على كل حلفائه، وبالتالي الهدف الأساس يجب ان يكون في العمل على مزيد من إضعاف الفريق المسيحي الإيراني، وهذا ما بدأ يتحقّق، لأنّه من خلال إضعافه يُصار إلى محاصرة «حزب الله» وطنياً وسياسياً وشعبياً ودفعه إلى الانكفاء تلقائياً إلى داخل البيئة المؤيّدة له مذهبياً.
– الاعتبار الرابع، كون البيئة الدرزية الإشتراكية في صميم الخط السيادي، ولكنها بعد أحداث أيار 2008 لم تعد مستعدة للقتال السياسي. وكون البيئة السنّية السيادية في تراجع في الوزن السياسي، فضلاً عن انّ الحالة السنّية التي تشكّل الغالبية الساحقة داخل البيئة الإسلامية، وهي كناية عن «أمة وعدد ومدد»، لن تتأثّر بتراجع زمني وظرفي في دولة من الدول العربية، كما في استطاعتها الرهان على عامل الوقت خلافاً للحالة المسيحية التي يشكّل الوقت عاملاً ضدها ونزفاً استراتيجياً لوضعيتها.
– الاعتبار الخامس، كون الخلاف بين المسيحيين والسنّة على معنى لبنان ودوره، والذي بدأ مع بداية «لبنان الكبير» وانتهى مبدئياً مع انتفاضة الاستقلال، وتحوّل خلافاً مسيحياً وسنّياً ودرزياً مع «حزب الله»، فإنّ من مصلحة أهل السنّة ان يتصدّر المسيحيون المواجهة مع الحزب، طالما انّ هدفها واحد وهو تطبيق «اتفاق الطائف»، وتلافياً أيضاً لنزاع سنّي- شيعي يمكن ان يتوسّع خارج لبنان، كذلك تلافياً لتفاهم سنّي – شيعي انسجاماً مع ظروف خارجية ولا تخدم المصلحة اللبنانية.
فلكل ما تقدّم من أسباب واعتبارات، ولأنّ الاستحقاق المفصلي اليوم هو رئاسة الجمهورية، ولأنّ الانتخابات النيابية أضعفت حليف «حزب الله»، ولأنّ الانقلاب على «اتفاق الطائف» بدأ بضرب القوى المسيحية السيادية، ولأنّ الهدف الممكن تسجيله اليوم يتحقّق من خلال الانتخابات الرئاسية ودعم الفريق المسيحي المؤيّد للطائف، فإنّ المسيحيين هم «بيضة قبّان» الطائف. فهل من يدعم الخيار المسيحي السيادي بدءاً من رئاسة الجمهورية؟ وهل من يدرك انّ عدم دعم الفريق المسيحي السيادي يعني إبقاء الطائف معلقاً، واستمرار قضمه التدريجي على يد فريق الممانعة؟ وهل من يظن انّ في الإمكان وقف مفاعيل الانقلاب على الطائف من دون دعم أصحاب الخط السيادي التاريخي؟ وهل بالمصادفة تمّ ضرب الخط السيادي اللبناني، أم في سياق مخطط مبرمج بهدف إلحاق لبنان بمحور الممانعة؟