23-نوفمبر-2024

علي حيدر – الأخبار

أياً كانت الأسباب التي دفعت «الشاباك» إلى الكشف عن جزء من الوثائق الأرشيفيّة المتّصلة بمعتقل الخيام، بعد أكثر من 20 عاماً على تحريره، فإنّ الحقيقة الثابتة هي أنّ صنوف التعذيب التي تعرّض لها المعتقلون لا يزالون يعيشون تداعياتها في كل يوم، حتى اليوم، وهو ما أكّدته صحيفة «هآرتس» التي نشرت تقريراً عن «وثائق مروّعة ما هي إلا لمحة بسيطة عن الجحيم الذي كان يحدث هناك»، في إشارة إلى المعتقل الذي ضمّ بين جنباته مئات المعتقلين ممن كانوا عرضة للتجويع وفريسة للأمراض.
في المقابل، ليس من الصعوبة التكهّن بخلفية حجب الرقابة عن الجزء الآخر من الوثائق، وهو يعود على الأرجح إلى أمرين على الأقل: الأول بشاعة أساليب التعذيب التي أدّت إلى استشهاد 11 معتقلاً بحسب تقرير منظمة العفو الدولية. والثاني أنه يؤكد الدور المباشر لجيش الاحتلال والشاباك في كلّ ما كان يجري في المعتقل، على خلاف إفادة رئيس شعبة العمليات في جيش الاحتلال اللواء دان حالوتس في حينه (أصبح لاحقاً رئيس أركان الجيش) أمام المحكمة العليا، وادّعى فيها أنّ «لا أساس لادعاءات تورّط إسرائيل في إدارة السجن»… من دون أن ينتقص ذلك من دور العملاء الذين كانوا ينفذون تعليمات جيش العدو، ويتبرعون في الكثير من الأحيان للقيام بأكثر من المطلوب منهم. كذلك أكد التقرير تورّط الشاباك الكامل في عمليات التحقيق في معتقل الخيام، مع كل ما رافقها. وهو أمر حصل مع الكثير من المعتقلين، من بينهم كاتب هذه السطور الذي خضع لتحقيقات أجراها ضباط إسرائيليون بشكل مكثّف مرات عدة. ومع أنّ الشاباك برّر مشاركته في التحقيقات بأنها تهدف إلى إنقاذ جنود جيش الاحتلال وعملائه، إلّا أنّ ما تعرض له المعتقلون لسنوات طويلة يتجاوز في خلفياته انتزاع المعلومات التي تهمّهم، خاصة وأنّ معاناة الأسرى استمرت لسنوات طويلة وبعد انتهاء التحقيق معهم.

أفرج جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، هذا الأسبوع، عن وثائق أرشيفية حول الظروف القاسية التي عانى منها معتقلون لبنانيون وعرب في معتقل أقامته إسرائيل في بلدة الخيام إبان احتلالها لجنوب لبنان وحتى انسحابها منه عام 2000.
تم الكشف عن الوثائق كجزء من التماس قدّمه عدد من ناشطي حقوق الإنسان إلى المحكمة العليا عبر المحامي إيتاي ماك الذي أكّد لصحيفة «هآرتس» أنّ «الجيش والشاباك أدارا معتقلاً مشابهاً لما أقامته الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية». ووصف التعذيب الذي تعرّض له نزلاء المعتقل (الخيام) بأنها جرائم ضد الإنسانية، وأنّ «الوثائق مروعة… وما هي إلا لمحة بسيطة عن الجحيم الذي كان يحدث هناك».
أنشئ معتقل الخيام عام 1985 قرب البلدة التي يحمل اسمها، على بُعد كيلومترات عدة من الحدود مع فلسطين المحتلة، عقب انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى المنطقة الأمنية التي أقامها في جنوب لبنان عقب انسحابه الأول بعد ثلاث سنوات من اجتياح عام 1982.
وطالب الملتمسون المحكمة بإصدار أمر للشاباك بالكشف عن الوثائق التي توثّق «التعذيب والعقوبات القاسية واللاإنسانية» التي مورست في السجن. وقد قرّرت المحكمة عقد جلسة أولى للنظر في الالتماس في نيسان المقبل، لكنها سمحت للشاباك بنشر جزء من المواد التي بحوزته، بعد إخضاعها لرقابة مشدّدة.
تُشير إحدى الوثائق، وتعود إلى عام 1987، إلى أنّ الشاباك زعم أن السجن كان له «دور مهم من أجل الإحباط» (أي إحباط عمليات المقاومة) وأنّ محقّقي «جيش لبنان الجنوبي» كانوا يديرونه «تحت إشراف الجيش الإسرائيلي والشاباك». وورد في الوثيقة نفسها أنّ نزلاء «هذه المنشأة لا يقدمون للمحاكمة ولا توجد مذكرات توقيف بحقهم، ومدة حبسهم تكون حسب خطورة أعمالهم. أي أنه لا تحديد للفترة الزمنية التي يقضونها في المعتقل».
تحت بند «التحقيق مع النساء»، أشارت إحدى الوثائق إلى أن «التحقيق يتم بواسطة محقّق رفيع المستوى بحضور شرطية». لكن «في حال عدم وجود شرطية عسكرية، يُسمح للمحقق بالتحقيق معها بحضور محقق آخر في الغرفة». وتبين وثائق أخرى أنّ عشرات النساء كنّ بين المعتقلين، من بينها واحدة، مكتوبة بخط اليد، ذكرت أنّ معتقلة حُقق معها بشبهة أنها «على علاقة بحزب الله»، وقد تلقّت أثناء التحقيق «صعقات كهربائية في أصابعها».
وأشارت وثيقة تعود إلى عام 1988 إلى تجويع الأسرى في السجن، وجاء فيها: «أفاد مدير السجن المحلي صباح اليوم بإعلان إضراب عن الطعام في السجن على خلفية النقص بالطعام. وحسب أقوال مدير السجن، يوجد نقص بالطعام فعلاً». وذكرت إحدى الوثائق، من العام نفسه، أن «الاكتظاظ في السجن كبير، وتم الإعلان أخيراً عن إضراب عن الطعام ليومٍ واحد على خلفية النقص في الطعام».

وفي وثيقة، تعود إلى عام 1997، جرت الإشارة إلى المشكلات الصحية التي عانى منها الأسرى في سجن الخيام. ويرجّح أنّ من كتبها كان مسؤولاً في السجن، وهو أحد أفراد «جيش لبنان الجنوبي»، تحدّث فيها عن لقاء عقده مع شخص «عبَّر خلاله عن عدم رضى من حلّ مشكلات صحية للذين يجري التحقيق معهم أو المعتقلين، ومن حقيقة أنه بعد أن طرح أمامنا موضوع المشكلات الصحية، فإننا نعلّق قرارات بشأن الإفراج عنهم». ولفتت إلى أن «مشكلة المسؤولية الطبية ليست محدّدة بشكل واضح وصريح»، ما يعني إمكان احتجاز أشخاص والتحقيق معهم رغم أن «حالتهم الصحية في خطر» من دون أن يكون المسؤول عن ذلك «على علم بهذا الأمر، ومن دون أن يحصل على دعمنا من أجل إطلاق سراحهم». ويُشير ملخّص الوثيقة إلى أن هذه «مشكلة مؤلمة»، وإلى أنّ المسؤول الذي حذر منها يشعر بأنّ «لا دعم له في حال وفاة معتقل في السجن بسبب مشكلات صحية أو لعدم تلقّيه علاجاً أوصى به الطبيب». وخلصت إلى أنّ على الشاباك «اتخاذ قرار يقلّص المسؤولية الملقاة علينا وعلى… (مقطع حذفته الرقابة) بشأن احتجاز معتقلين في السجن».
وتُشير تقارير لمنظمة العفو إلى أنّ 11 معتقلاً توفوا في معتقل الخيام، إلا أنّ الجيش الإسرائيلي والشاباك امتنعا عن نشر معطيات رسمية في هذا الشأن.

وفي وثيقة أخرى تعود إلى عام 1997، اعتبر ضابط إسرائيلي، شطبت الرقابة اسمه ومنصبه، أنّ «المشكلات الطبية… معروفة طوال السنين الماضية، و«يجب أن نتذكر أنه ليست كل مشكلة صحية حرجة تتطلب الإفراج، ويمكن أيضاً حبس المرضى»، مشدّداً على أنّ «القرار النهائي يجب أن يكون دائماً في أيدي قواتنا»، لأن للنشطاء اللبنانيّين «مصالح معروفة لا تتلاءم دائماً مع مصالحنا».
وتُظهر الوثائق أنّ ما بين 250 و 300 معتقل كانوا محتجزين في معتقل الخيام بشكل دائم. وينتمي هؤلاء إلى تنظيمات وأحزاب مختلفة، منها حركة أمل وحزب الله والحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي وحركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وغيرها، وآخرون ينتمون إلى منظمات أخرى «غير واضحة».
وتكشف وثائق أخرى عن مداولات قانونية أجرتها شخصيات مختلفة في إسرائيل تناولت مشروعية التحقيق مع معتقلين لبنانيين من قبل إسرائيل في الأراضي اللبنانية. وبحسب إحدى الوثائق من عام 1996، اعترفت إسرائيل بوجود «مشكلات سياسية – قانونية» تتعلّق بوجود منشأة معتقل وإجراء تحقيقات تُدار من قبل إسرائيل في لبنان. وتنص الوثيقة على أنه بينما «صرّحت الحكومة الإسرائيلية رسمياً أنها انسحبت من المنطقة»، فإنّ إقامة منشأة معتقل «هو عمل سلطوي بارز».
النقاش في الأمر جرى بعد أن طلب الشاباك من الدولة السماح له باستجواب المعتقلين اللبنانيين في لبنان، بسبب ما وصفه تدهور الوضع الأمني وضرورة «استخلاص معلومات استخبارية، بأسلوب ناجع ومهني، يمكن أن تمنع جزءاً من العمليات وإنقاذ حياة جنود في الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي». وبحسب الوثيقة شدّد المدعي العسكري الرئيسي العميد أوري شوهام، على أن اقتراح السماح للشاباك بالتحقيق مع معتقلين في لبنان «لا يخلو من الإشكالية الرئيسية في المسؤولية التي تتحملها إسرائيل لمجرد إجراء تحقيق من قبل ضباط إسرائيليين».
وأشارت وثيقة غير مؤرّخة إلى «استعراض الوضع القانوني الذي تعدّ بموجبه العمليات في لبنان غير منظمة قانونياً، خصوصاً من وجهة نظر القانون الدولي ومن وجهة النظر العامة». وتبين من وثيقة أخرى أنّ المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية في حينه، إلياكيم روبنشطاين، «صادق مبدئياً على الاقتراح المشترك للشاباك والجيش الإسرائيلي بالسماح، بشروط وقيود معينة، للشاباك بالتحقيق مع لبنانيين في لبنان».
في عام 1999، أفاد المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن المحامي ياكير، بأنّ الجمعية و«هموكيد للدفاع عن الفرد» قدما التماساً للمحكمة العليا للإفراج عن بعض المعتقلين من سجن الخيام والسماح لمحامين من المنظمات بمقابلة المعتقلين هناك. وأضاف ياكير نقلاً عن الملتمسين، إنّ الشاباك متورط في كل ما يتعلق بالمعتقل، لافتاً إلى أنّ المحكمة العليا «تجنبت مناقشة الالتماس، وطلبت المزيد والمزيد من الحجج حول مسألة صلاحيتها للتدخل في ما يحدث خارج الدولة».
وقدم رئيس شعبة العمليات آنذاك، رئيس الأركان لاحقاً، دان حالوتس، إفادة أمام المحكمة العليا ادعى فيها أنه «لا يوجد أساس لادعاءات تورط إسرائيل في إدارة السجن»، رغم تأكيده أنّ جنود الجيش الإسرائيلي ومسؤولين إسرائيليين آخرين يتمركزون في السجن، إلا أنهم «لم يكونوا موجودين بشكل روتيني».
وأكّد ياكير أن «الشاباك كان على علم بالظروف اللاإنسانية التي تم فيها احتجاز المعتقلين ونقص الطعام والتعذيب أثناء التحقيق، بل إن بعضهم حقق بنفسه معهم».
وتُظهر الوثائق أنّ الجيش بشكل عام، والشاباك بشكل خاص، «كانا متورطَين حتى الرقبة في السيطرة على السكان المدنيين في جنوب لبنان. وفي الاعتقال غير القانوني لمئات المعتقلين إلى أجل غير مسمى من دون أساس قانوني، ودون رقابة قانونية وبظروف قاسية تضمنت عمليات تعذيب».
وقالت المديرة العامة السابقة لمركز الدفاع عن الفرد، وإحدى مقدمات الالتماس، داليا كيرشتاين، لصحيفة «هآرتس» إنّ نظام الاحتلال الإسرائيلي الوحشي في جنوب لبنان، بما في ذلك التعذيب المروع في سجن الخيام، هو «من البقع السوداء في التاريخ الإسرائيلي. والخروج من لبنان لن يكون كاملاً حتى تكشف دولة إسرائيل عن جميع ممارساتها هناك، وإلى حين يواجه المجتمع الإسرائيلي ماضيه هناك». وأضافت أنه «في الوقت الذي تحوّل فيه المعتقل إلى متحف، لا يزال يتم إخفاء الوثائق حول ممارسات إسرائيل عن الجمهور، ويواصل المسؤولون عن الفظائع التجوال بيننا، من دون أن يُحاسبوا على أفعالهم».