كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
انتهت «الهمروجة» التي واكبت خطوة التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون سنة إضافية، والتي بلغت ذروتها يوم الجمعة الماضي. وفيما انصرفت القوى السياسية الداخلية الى تحليل النتائج وتحديد الأرباح والخسائر «وتقريشها» في الاستحقاق الرئاسي، عاد التركيز على جنون الحرب الإسرائيلية، خصوصاً مع تصاعد نبرة التهديدات الإسرائيلية والمترافقة مع رفع مستوى السخونة في الجنوب.
ففي ملف الاستحقاق الرئاسي، يستعد الأفرقاء لجولة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان والمقرّرة مبدئياً أواخر الشهر المقبل. وتكتسب جولات لودريان الجديدة أهمية مختلفة عن الجولات السابقة، كونه بات يتحدث بإسم الدول الخمس، إضافة الى الدخول السعودي المباشر على الملف اللبناني، بعدما كانت الرياض تتحاشى ذلك سابقاً، وتُبقي تأثيرها في الحدّ الأدنى الممكن.
ولم يظهر ذلك فقط من خلال إعلان لودريان لذلك خلال وجوده في بيروت، بل خصوصاً مع تحرّك السفير السعودي في اتجاه بكركي في عزّ اللغط الداخلي الرسمي حول الصيغة التي ستُعتمد لإنجاز التمديد، وما إذا كانت ستحصل «نظيفة» في مجلس النواب أم «مفخخة» ورفع عتب في مجلس الوزراء.
والزيارة حملت يومها رسالةً واضحة خصوصاً في اتجاه رئيس الحكومة، ومن الصرح الماروني. وقبله كان لودريان نقل الى أعضاء الخماسية أجواء مرنة من لقائه برئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد وأخرى إيجابية من لقائه برئيس مجلس النواب نبيه بري.
وثمة إشارة بليغة أخرى لجولة لودريان الأخيرة، فهو أظهر للمرّة الأولى سلوكاً حازماً يبدو أنّه قابل للتطور. فقطعه الاجتماع مع رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل بعد دقائق معدودة على بدئه كان محضّراً على ما يبدو. فوقع باسيل في الفخ وفوجئ بردّة فعل لودريان. لكن ثمة رسالة حازمة أراد لودريان توجيهها بإسم المجموعة الخماسية لم ينجح باسيل في تفكيك «شيفرتها» أو ربما كابر في سلوكه، ما أوقعه في الفخ الثاني لاحقاً. وارتكب خطأ إضافياً حين مرّر عبر الإعلام كلاماً محرّفاً أو ملغوماً لما قاله لودريان. فـ«الخزعبلات» المعتمدة في الحياة السياسية اللبنانية قد لا تكون حميدة على المستوى الدولي.
وقرأت الأوساط الديبلوماسية المعنية في السلوك المتوتر لباسيل خشيته من رفع الحظوظ الرئاسية للعماد جوزف عون الى الحدّ الأقصى، وهو ما أورده في إطلالته الاعلامية. لكن المنطقة كلها وسط بركان كبير، وفي مرحلة تحول كبرى. فالشغب من دون حدّ أدنى من المسؤولية يرفع من مستوى المخاطر الوجودية الحقيقية.
المهم أنّ لودريان الذي طلب منه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أن يتفرّغ للملف اللبناني ولعمل اللجنة الخماسية، سيحدّد موعد عودته قياساً الى التطورات الحربية الخطيرة الدائرة في الجنوب. فالمنطقة كلها أمام تحولات يجري رسمها، ولبنان جزء منها. وتكفي الإشارة الى زيارات المسؤولين الأميركيين الكبار المتلاحقة لإسرائيل، وكذلك الزيارات المتلاحقة لوزير الخارجية الايراني حسين اميرعبداللهيان لقطر أو الوسيط الأساسي في التواصل بين حركة «حماس» واسرائيل في ملف الرهائن وربما في ملفات أخرى أكثر حساسية.
وهنالك ما هو جديد وملفت ومعبّر ويتعلق بالتطورات الحربية عند الحدود الاردنية ـ السورية، فمن جهة هنالك اتهامات لإيران بالسعي للعبث بالتوازن الحساس داخل الأردن وضرب استقراره، ومن جهة أخرى هنالك غارات أردنية مباشرة على أهداف في جنوب سوريا إيذاناً ببدء مرحلة جديدة وعلى مقربة من احتجاجات أهالي السويداء.
والأهم أنّ روسيا أو القوة الدولية الكبرى الوحيدة (بعد الولايات المتحده الاميركية) والتي تمتلك قواعد عسكرية في المنطقة تستمر في سلوكها الهادئ منذ اندلاع حرب غزة الى درجة قد تصح معها المعادلة القائلة: مرونة في الشرق الاوسط مقابل مرونة في أوكرانيا. فهل من باب المصادفة تراجع مستوى الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا، وسط أجواء تقول إنّ واقع أوكرانيا العسكري سيكون صعباً جداً في العام 2024؟
في المناسبة، فإنّ موسكو أبلغت الى من يعنيهم الأمر أنّها مرتاحة الى قرار مجلس النواب اللبناني بالتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون.
ومن الغباء الاعتقاد أنّ هذه الحركة الكثيفة تجاه المنطقة محصورة فقط بترتيب وقف لإطلاق النار. ذلك أنّه من الممكن ترتيب ذلك عبر حركة إتصالات ومشاورات هاتفية. والمحطات التاريخية تروي أنّ أحداثاً بهذا الحجم يجري ترتيب حلول لها لتؤسس لواقع مختلف سيسود لعقود الى الأمام.
على سبيل المثال، ثمة جوانب مبهمة في استهداف إيران عبر الحوثيين للسفن العملاقة في البحر الأحمر. ولم يكتف الحوثيون بتنفيذ استيلاء في حاجة الى خطة دقيقة وقدرات عالية لا يملكها كثير من الدول، بل عمدوا إلى تصوير العملية ونشرها في وسائل الإعلام. وفي المقابل، وعلى الرغم من الانتشار العسكري النوعي والكثيف للأساطيل الغربية، بقيت الردود ناعمة وفي حدّها الأدنى. ألا يعني ذلك شيئاً؟ بلى بالتأكيد.
وصحيح أنّ مصر ستكون المتضرّر الأكبر مما يحصل بسبب تراجع مداخيلها من قناة السويس، إلاّ أنّ دول المنطقة كلها ستتضرّر وكذلك الحركة التجارية العالمية. لكن، هنالك من سيكسب ومن سيسعى لإيجاد البدائل تحت وطأة ارتفاع الأسعار.
والمشروع الذي ولدت فكرته في نيودلهي وأعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن يصبح بديلاً ملحّاً في هذه الحال. أي إنشاء ممر تجاري من الهند الى اسرائيل عبر دولة الإمارات والسعودية والأردن. وبالتالي فإنّ إقفال البحر الأحمر سيجعل هذا الطريق أكثر جاذبية للدول الأعضاء. وهذا ما يهمّ واشنطن بكل تأكيد وأيضاً اسرائيل، ولكنه في حاجة الى واقع جغرافي جديد وخريطة نفوذ جديدة تحدّد الخطوط الحمر الناشئة.
إزاء كل هذه الصورة التي تنبئ باحتمال حصول تحولات هائلة خلف اللهيب المتصاعد من غزة، يظهر في وضوح أنّ الساحة اللبنانية ليست تفصيلاً هامشياً. فإضافة الى الحرب الصغيرة المفتوحة في جنوب لبنان، هنالك الساحل اللبناني وأهميته وهنالك تثبيت الحدود البرية.
لكن هذه الورشة اللبنانية في حاجة الى تفاهمات إقليمية ولو بالخطوط العريضة قبل الشروع فيها. على أن يجري تظهير كل ذلك من خلال مؤتمر دولي يشبه من حيث الشكل مؤتمر مدريد عام 1991، أما مضمونه فيقارب مؤتمر يالطا عند انتهاء الحرب العالميه الثانية.
ولكن هذا المؤتمر يجب أن يحضره لبنان وهو مكتمل السلطات، لأنّ لبنان لن يكون ثمناً لأي تسويات أو مقايضات، وهو ما يمكن أن نقرأه في الحركة الخماسية التصاعدية بدءاً من مطلع السنة الجديدة، والتي شكّل التمديد لقائد الجيش أولى مهماتها الفعلية.
المصدر: Al Joumhouria | الجمهورية