22-نوفمبر-2024

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

يلاحظ في معظم مؤسسات الإدارة الرسمية منذ بدء أزمة تحلل رواتب موظفيها، إنقسام هؤلاء إلى ثلاث فئات. فئة من الكفاءات الذين ما زالت مؤسسات الدولة تقوم على أكتافهم، وهؤلاء يظهرون الأكثر قلقاً على مستقبل هذه الإدارة، ويؤسفهم أن تتدهور حالها إلى مستويات يؤكدون أنهم لم يشهدوها سابقاً. وفئة من يتمسكون بالرواتب الأربعة التي أقرّت الحكومة تقديمها للموظفين كتعويض عن إنهيار قيمة الرواتب، وهؤلاء لا يزالون يأملون بتحسن أوضاعهم، ويؤمّنون الدوامات بالحد الأدنى ولو من دون أن يوفروا الإنتاجية المطلوبة منهم أحياناً. إلا أن رؤساء الدوائر يجدون صعوبة كبيرة في التعامل مع جزء كبير من هذه الفئة، حتى من ناحية إلزامهم بواجباتهم. وفئة من تخلّوا عن الرواتب الأربعة لإنعدام قيمتها بالأساس، ومن بينهم من قرر الإمتناع عن الحضور نهائياً إلى العمل. هؤلاء يحضرون للوظيفة مرة كل 14 يوماً تحاشياً للمحاسبة الوظيفية، أو يؤمّنون حضوراً متحرراً من كل الأنظمة الوظيفية، ويمكن القول أيضاً أنهم «فاتحين على حسابهم». هذه هي الحال في معظم الإدارات العامة ومن بينها دائرة النفوس.

تشكّل دوائر النفوس عصب الإدارة اللبنانية بما تعنيه من مواكبة لأحوال المواطنين الشخصية منذ يوم الولادة إلى الوفاة. ففي هذه الدائرة يولد المواطن، يتزوج أو يموت. ومن دون توثيق هذه الأحوال ستعم الفوضى، وخصوصاً مع إضافة عبء ملف النزوح السوري على مهمات دوائر النفوس اللبنانية أيضاً. ولذلك تقول مصادر مسؤولة في هذه الإدارة «كان القرار بعدم السماح بتعطيل دوائر النفوس على مختلف الأراضي اللبنانية، حتى نحافظ على الإستقرار ولو بالحد الأدنى، خصوصاً أنّ التداعيات التي سيخلفها هذا التعطيل ستحتاج إلى وقت طويل للخروج منها». وهذا ما يتوضح في دائرة نفوس زحلة حيث يتواجد 28 موظفاً يتناوبون في الحضور إلى الوظيفة من الإثنين إلى الخميس بخلفيات خاصة، وقد عمدت الإدارة إلى إلزام كل موظف بتأمين حضور ولو ليوم واحد أسبوعياً.

لا التزام مطلقاً

وإنطلاقاً من هذا الواقع يمكن القول أنّه لا التزام مطلقاً من قبل موظفي الدائرة بقرار ربطه الموظفون بتمديد الإضراب حتى نهاية الشهر الحالي، وبالتالي إنجاز المعاملات مستمر في معظم ملفات الأحوال الشخصية بالنسبة للمواطنين. أما بالنسبة لإصدار إخراجات القيد، فهو رهن «الطلعات والنزلات» التي يعانيها بالتوازي مع توفر الوثائق أو عدمه، علماً بأنّ الإستحصال على إخراج قيد عائلي بات أكثر صعوبة حالياً من الفردي، بسبب عدم توفر الوثائق، كما يؤكد المطلعون.

مبدئياً لا ميزانية لدى مديرية الأحوال الشخصية لطباعة إخراجات القيد، خصوصاً أنّه لا زيادات مؤثرة في كلفة إصدارها بالنسبة للمواطنين، كما حصل بالنسبة لكلفة جوازات السفر، ولذلك يجري الإعتماد في طباعتها على فوج الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني الذي جاء تكفّله بجزء من هذه المهمة، لمنع تسلل الفوضى إلى صفوف عناصره، وهو يعمل أيضاً وفقاً لطاقته.

ومن هنا تؤكد مصادر إدارية أنّ تأمين إخراجات القيد مرّ في مراحل أصعب من تلك التي يشهدها حالياً، حيث شحّت الوثائق بشكل كبير في الدوائر، ما خلق بلبلة في السابق، دفعت إلى إجتراح حلول مؤقتة، يبدو أن مفاعيلها ممددة إلى حين إعادة عجلة الدولة إلى السكة مجدداً.

قنّنت الإدارة منذ مدة في منح وثائق إخراجات القيد الفردية والعائلية للمواطنين، وأصبحت معظم المعاملات تكتفي بإعادة التأكيد على المعلومات الواردة في الوثائق الصادرة سابقاً، بعد أن يتم وصمها بعبارة «لم يطرأ عليها أي تعديل» للتأكد من عملية تحديثها في دوائر النفوس، مع منح الوثيقة للذين يفتقدونها نهائياً فقط. وهذا كان سبباً أحياناً في خضوع كلفة وثيقة إخراج القيد لعوامل العرض والطلب. فهناك من هو مستعد لدفع أي ثمن للحصول عليه، ما يجعل منه صيداً يسهل التفاوض معه في تحديد كلفة إخراج القيد، التي ترتفع خصوصاً إذا كان طالبه من غير سكان مكان ولادته.

السمسار ضمانة

قبل بلوغ دوائر النفوس، ثمة قناعة سائدة لدى المواطنين بأنّ تكليف السمسار بالمهمة يشكّل ضمانة أكبر لتوفير أي وثيقة يحتاجها المواطن من دوائر النفوس، حتى لو كبد ذلك الجيبة مبلغاً يفوق بأضعاف كلفة إصدارها الرسمية. فرسمياً إرتفعت كلفة الإستحصال على إخراج قيد عشرين ألف ليرة فقط منذ بدء الأزمة حتى الآن. ولكننا عندما سألنا أحد السماسرة عن كلفة إخراج القيد في هذه الايام جاءت إجابته «مين بيعرف» وذلك كما شرح، رهن توفر الورق الذي يحتاجه. فعلى رغم كون وثيقة إخراج القيد حق مكرس للمواطنين، تؤدي من خلالها الدولة واجباً شبه مجاني تجاه المواطنين، فإنّ السماسرة يحومون حول دوائر النفوس منذ نشأتها تقريباً. لا يذكر بعض المواطنين متى كانت المرة الأولى أو الوحيدة التي أصدروا خلالها وثيقتهم بأيديهم. فجزء كبير منهم كان يقصد السماسرة حتى في مرحلة الإستقرار السابقة، وأحياناً كثيرة لتحاشي الزحمة على ابواب مراكز دوائر النفوس في مختلف المناطق.

ومصدر قوة كل سمسار كما تشرح المصادر، هو شبكة العلاقات التي ينسجها بالداخل. والعلاقة مع الداخل تقترن بحجم المصلحة التي يحققها الموظف. وإذا كانت لا شواهد على ما يدفع داخل هذه الدوائر من «إكراميات»، فإن هذا الأمر تثبته روائح الدفع المنتشرة في المكان، تماماً كما تنتشر رائحة العطر من دون إثبات استخدامه بأم العين.

ويبدو أن دور السمسار هذا تعزز خصوصاً خلال مرحلة الأزمة الحالية، حيث باتت فرص السمسار بشطارته ومعرفته بمفاتيح الدائرة، أكبر بكثير، «وكل شيء بثمنه». ليتحوّل حتى بعض المخاتير سماسرة أيضاً، بعضهم وجد أيضاً سبلاً لإختراق السجل العدلي في تأمين وثيقة «لا حكم عليه»، وطبعاً كل شيء بثمنه.

يؤكد أحد العالمين بأحوال دائرة النفوس في زحلة على سبيل المثال، أنّ إخراجات القيد لم تفقد مطلقاً في هذه الدائرة، فهي متوفرة دائماً، إلا أنّ الجو الذي يشاع حول شحّها أو انعدامها يغذي مصالح بعض الموظفين، الذين نجدهم مستمرين بتأمين الدوام حالياً، مع أنّ رواتب بعضهم قد لا تكفي لتأمين وصولهم إلى وظائفهم حتى نهاية الشهر. إتهام تتلقفه مصادر مسؤولة في دائرة نفوس زحلة لتعتبر «أنه يحمل الكثير من التجني على فئة الموظفين التي تعمل بإخلاص للحفاظ على الإدارة».

ومن بين هؤلاء فعلاً موظفون بمواقع المسؤولية يُشهد لهم في دائرة زحلة، يرفضون حتى «المنقوشة» التي تقدم لهم كضيافة. هؤلاء صامدون بوجه كل الإغراءات كما تؤكد المشاهدات الميدانية، على رغم ما يعانونه من صعوبات مشابهة كسائر موظفي الدولة. إذ تؤكد المصادر «أن الصرخة ترتفع على جميع المستويات بدءاً من الرؤساء إلى مأموري النفوس وحتى أصغر موظف في هذه الدائرة»، كاشفة «أن بعض الموظفات في مواقع المسؤولية يستدنّ من أزواجهن حتى يحضرن إلى وظائفهن».

التكتم حول الإكراميات

إلا أن ما خلف الأبواب يبقى خلفها. والتكتم يبدو شديداً حول الإكراميات التي تسدد لتأمين الوثائق، حتى من قبل من يسددون هذه الإكراميات، ومن بينهم المخاتير. وهؤلاء أيضاً إرتفعت كلفة خدماتهم التي يؤدونها لناخبيهم، والتي يسددها بعض المخضرمين من جيوبهم، فيما هي شكلت بالنسبة لآخرين مصدر دخل يتقاسمونه مع الموظف الذي يطالب بالإكرامية، ويلومه إذا تعامل مع سواه. في محاولة لاستطلاع سعر المعاملة من دون اللجوء إلى سمسار، تحدده مصادر مطلعة في سراي زحلة بـ28 ألف ليرة، ينقسم بين طابع خمسةآلاف للمختار، مع إضافة طابع العشرين ألف ليرة على المعاملة إلى جانب طابعي الألفي ليرة، أو ما يوازي هذا المبلغ خلال تسديد القيمة إلكترونياً. مبلغ يبدو زهيداً قياساً إلى تكاليف طباعة هذه الوثيقة. إلا أنّ مصادر في دوائر النفوس تقول «نحن هنا نتحدث عن وثيقة سيحتاجها المواطن في كل معاملة يجريها على الأراضي اللبنانية وأحيانا في خارجها، ولذلك نحن ملزمون بتأمينها».

إلا أنّ توفر الخدمة التي تقدم في هذه الدائرة كما تؤكد مصادر مسؤولة، لا يتأثر فقط بالرواتب وتحلل قيمتها، وإنما أيضاً بإنعدام الموارد الذي يجعل الإدارة نفسها تتحلل، لتضع الموظف في مواجهة المواطن، فيصبح كل موظف متهم إلى أن يثبت العكس.

وهنا أيضاً يمكن الحديث عن فئات مختلفة من المواطنين. فئة الحانق على الوضع العام والذي «يفش خلقه بموظف الدولة». وفئة المواطن المسؤول الذي يحاول أن يمد يد العون، ويعتبر نفسه مسؤولاً في الحفاظ على الموارد، ومجابهة تمدد الفوضى إليها، وخصوصاً في الدوائر التي تعنى بوضعه القانوني مباشرة. وهذه الفئة تحديداً تبدي قلقاً على أحوال الناس الشخصية التي لا يزال التعاطي معها يتم ورقياً.

لم تخضع مستندات دوائر النفوس الورقية للتحديث منذ مدة وخصوصاً العائلية منها، ومع أنّ الشكوى تكررت منذ سنة 2014 بتحديث هذه الملفات، لم توفر الأزمة الأخيرة الظروف الملائمة لذلك، وهذا ما ترجم عملياً بأخطاء بدأت تظهر في إصدار إخراجات القيد العائلية، سواء من ناحية تسجيل بعض الأسماء، أو من ناحية إختفاء أسماء عن السجلات نتيجة لتآكل وإهتراء ملفاتها الورقية، بالتالي أصبحت خبرة الموظف كما المختار أساسية في تحاشي سقوط بعض المعلومات من هذه الملفات. مواطنون عبّروا عن هذا القلق وإنتقدوا ما إختبروه بأنفسهم، وآخرون حاولوا المساعدة من خلال تأمين الشرطان اللاصقة لترميمها وغيرها من أساليب المساعدة.

المكننة المنتظرة

وفيما ذكرت المصادر أن مستندات الملفات العائلية ستخضع في المرحلة المقبلة لعملية مكننة بعد أن يجري تدريب الموظفين على ذلك أولاً، يؤكد مصدر مسؤول في دائرة نفوس زحلة «أن موظفي الدائرة معنيون بالحفاظ على هذه الملفات مثلهم مثل اي مواطن، لأن تسلل الفوضى إلى الدائرة يهدد السجلات العائلية حتى لهؤلاء الموظفين». ولذلك يؤكد «أننا نتمسك بالعمل بالحد الأدنى ولول باللحم الحي. وتعاطفنا مع الناس أكبر من تعاطفهم معنا. ولكننا مواطنون مثلنا مثلهم، ونحن أيضاً نعاني من الشلل الحاصل في الإدارة حتى بتسيير أمورنا الفردية، إلا أنّ ما نمر به يحتم على كل منا تحمل الآخر ومراعاة ظروفه بدلاً من إستغلال الأزمة والإمعان في تعميقها».

كلام يسمع أيضاً على أبواب الدائرة العقارية المغلق منذ أشهر بوجه المواطنين، حيث بدأت الصرخة ترتفع من أخذ الدائرة رهينة من قبل الموظفين منذ سبعة أشهر، بانتظار أن تصدق الوعود بفتح أبواب هذه الدائرة ولو لتمرير طلبات مزمنة اليوم الإثنين، والتفاصيل في تقرير يوم غد.