كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
بدأ انهيار الدولة اللبنانية عندما بدأت الحرب على المسيحيين في لبنان. ويستمرّ هذا الإنهيار طالما استمرت هذه الحرب ولا عودة للجمهورية وللدولة إلا بعودة الدور المسيحي الذي يُبنى عليه تحالف وطني واسع. وطريق العودة تبدأ من موقع رئاسة الجمهورية ومن خلال رئيس يمثّل الروح التي يجب أن تقوم عليها هذه الدولة، لا رئيساً موظفاً يعتبر أنّه فعلاً موظف وليس رئيساً، ويكتفي بما يعطى له أو يتقاسم المغانم مع الذين يوصلونه إلى القصر الجمهوري في بعبدا.
عندما حصل «تفاهم معراب» بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» في 18 كانون الثاني 2016، تكرّس نوع من التوازن داخل السلطة. كان من الواجب أن يؤدي هذا التفاهم إلى تكريس هذا التوازن، ولكنّه بفعل سياسة «التيار الوطني الحر» والرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل ذهب هذا الإتفاق إلى غير الوجهة التي كان يجب أن يذهب إليها، وبدل أن يشكّل حالة إنقاذ للجمهورية أخذ عون وباسيل البلد إلى الإنهيار السريع.
مصلحة عون وباسيل فوق أي اتفاق
منذ بدأ البحث بين «التيار» و»القوات» للتوصل إلى اتفاق حول الخيارات التي يجب أن تنهي الإنقسام وتشكّل حالة إنقاذ للوضع المسيحي وللوضع اللبناني، لم يصدق كثيرون أنّ الطرفين يمكن أن يتوصّلا إلى أي اتفاق. في ظلّ الفراغ الرئاسي، ومع تمسك عون بترشيحه وتمسّك «حزب الله» به مرشحاً وحيداً، وتعطيل جلسات الإنتخاب، مع أنّ الأكثرية النيابية لم تكن مع قوى 8 آذار، تمّ الإتفاق على إعلان النوايا في منتصف العام 2015. كان العماد عون يبحث عن اتفاق يوصله إلى قصر بعبدا، بينما كانت «القوات» تبحث عن تفاهم يمكن أن يعيد الجمهورية إلى القصر والرئاسة إلى موقعها الصحيح. ولذلك كان يمكن أن يشكل «تفاهم معراب» حالة إنقاذ للجمهورية وأن يصحّح الخلل الذي قام في السلطة منذ العام 1990. ولكن بدل أن يحصل ذلك اتجه الرئيس عون مع باسيل إلى تسخير الرئاسة في لعبة إيصال باسيل إلى القصر الجمهوري بعد انتهاء ولاية عون، وبالتالي أعادا القصر والجمهورية إلى إطار المصالح الشخصية التي قضت على أي إمكانية للإنقاذ بينما كان الوضع متجهاً إلى الإنهيار.
يمكن فهم قوة الحضور المسيحي في الدولة من خلال القوة التي فرضها «اتفاق معراب» بين 18 كانون الثاني 2016 و31 تشرين الأول 2016، تاريخ وصول عون إلى قصر بعبدا. هذا الوصول بدل أن يكون بداية لعملية الإنقاذ شكّل خيبة أمل من خلال طريقة إدارة الدولة ومحاولة الإستئثار بالتمثيل المسيحي والتحوّل من عملية الإنقاذ إلى شراكة في تقاسم المغانم والمناصب والصفقات.
الحكم على قوة تأثير الحضور المسيحي في الدولة يبدأ من خلال القوة التي فرض فيها «اتفاق معراب» نفسه على الواقع السياسي في لبنان. كان يتم تحميل المسؤولية للمسيحيين من خلال الإنقسام الكبير بين «التيار» و»القوات»، وعندما تجاوز رئيس «القوات» سمير جعجع كل المحاذير والإعتبارات نحو هذا الإتفاق كان يراهن على أن يكون بداية لتحول كبير في طريقة تعاطي العماد عون مع الوضع السياسي وفي التحالفات التي عقدها للوصول إلى الرئاسة خصوصا اتفاق 6 شباط 2006 مع «حزب الله». ولكن عون بدل أن يذهب في هذا الإتجاه انخرط في اللعبة المعاكسة وبدأ مع باسيل حرب إخراج «القوات» من المعادلة. وبالتالي بدل أن يكرس «اتفاق معراب» عودة المسيحيين إلى دائرة القرار وتكريس التوازن الداخلي واستعادة دور الرئيس القوي أو الجمهورية القوية، قلب عون وباسيل المعادلة وأسقطا الإتفاق الأمر الذي أدى عملياً إلى سقوط الدولة فربحا لقب الرئيس القوي وخسرا الجمهورية والرئاسة وانتهى عهد عون إلى كوارث بالجملة وطارت الرئاسة والجمهورية معا.
حروب تهديم الدور المسيحي
منذ العام 1965 بدأت الحرب على الحضور المسيحي في الدولة. إضعاف هذا الحضور لم يكن إلا إضعافاً للدولة. وصول الرئيس سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في العام 1970 كان يجب أن يشكّل بداية تصحيح لاستباحة الدولة والمؤسسات وتأسيس الدولة البديلة مع بدء العمل الفلسطيني المسلح. الحرب العسكرية كانت لتكريس إسقاط جمهورية «سويسرا الشرق»، باعتبار أنّ المسيحيين لن يقاوموا، وأن الجيش لا يمكن أن يتدخل في ظل الإنقسام الداخلي. ولكن هذه الحسابات لم تكن دقيقة ومقاومة المسيحيين العسكرية والسياسية لم تكن إلا دفاعاً عن الدولة وعن الكيان اللبناني.
لم يبن المسيحيون في لبنان دولة لهم. كل ما يحكى عن فضائل الجمهورية الأولى بين العام 1943 والعام 1975 كان بقوة الحضور المسيحي. ولكن هذا الحضور لم يكن على حساب الطوائف الأخرى بل بقوة حضور من يمثّلها أيضاً وبالمشاركة المتوازنة في السلطة. ما كان يحكى عن امتيازات مسيحية لم يكن دقيقاً. تلك الإمتيازات لم يستخدمها المسيحيون من أجل حكم الآخرين بل من أجل أن تكون ضمانات لتسيير عجلة السلطة والدولة. ولذلك لم يحصل فراغ في السلطة طوال تلك المرحلة ولم يحصل استئثار بهذه السلطة. رؤساء المجالس النيابية كانوا من زعماء الشيعة. ورؤساء الحكومات كانوا من زعامات الطائفة السنية. على عكس ذلك لم يكن رؤساء الجمهورية زعماء بل رؤساء. وطوال تلك المرحلة لم يتم كسر هذه القواعد.
منذ العام 1990 وبعد دخول لبنان تحت ظل الحكم السوري المباشر بعد اتفاق الطائف واغتيال الرئيس رينيه معوّض، بدأ كسر هذا التوازن وبدأ التعاطي مع المسيحيين وكأنّهم مجرّد أدوات في السلطة ومجرّد مناصب يتمّ ملؤها بمن يختاره النظام السوري. ولكن على رغم هذا الفرض وهذا التحكّم بالخيارات لم يكن بالإمكان الإستغناء عن الحضور المسيحي. على رغم اعتقال رئيس «القوات» الدكتور سمير جعجع، وإبعاد العماد عون إلى باريس، كانت عملية التحكّم بالدولة صعبة وفاشلة في ظلّ امتلاك كل مقوّمات هذا التحكّم. وبالتالي فشل النظام السوري في خلق قيادات مسيحية جديدة وأثبتت التجربة أنّ المتعاونين معه لم يستطيعوا أن يدخلوا إلى الوجدان المسيحي. حتى المتعاونون مع الوصاية السورية من الطوائف الأخرى لم يجدوا إلا في بكركي والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير، والقوى المسيحية الحقيقية، حلفاء موضوعيين للتحرّر من عهد الوصاية السورية. هكذا تم رسم طريق التلاقي بين إرادات ثلاث كان يمكن أن تشكّل طريق الخلاص: الرئيس رفيق الحريري والبطريرك صفير ومعه لقاء قرنة شهوان، ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. الرئيس نبيه بري حاول أن يبدأ مساراً مماثلاً من خلال لقاء وحيد وأخير مع البطريرك صفير بعدما بدأ يطرح مسألة خروج الجيش السوري من لبنان، ولكنه جوبه بضربات قوية من جانب اتباع النظام السوري من قصر بعبدا والرئيس إميل لحود إلى سائر الأجهزة. ولذلك ضاعت المحاولة وفشلت ولم يكرّرها رئيس مجلس النواب الذي عاد ودخل في اللعبة الأساسية ولم يخرج منها بعد.
رأس الحربة في استعادة الدولة
كما كان المسيحيون رأس حربة في عملية بناء الدولة كانوا رأس حربة في عملية مقاومة هدم الدولة ولا يزالون. وهم في خياراتهم السياسية يتحملون مسؤولية الإبتعاد عن هذا الخيار أو الإنخراط فيه. وإذا كان العماد عون شكّل خروجاً عن هذه الخيارات منذ العام 2006، فإن الذين أيّدوه في خياراته يتحمّلون مسؤولية مضاعفة. والمقارنة بسيطة مع موقف «القوات اللبنانية» والقوى السيادية الأخرى التي لم تنضوِ تحت سلطة عهد الوصاية وهو يتحكّم في لبنان، إذ كيف يمكن فهم أنّ عون انضوى تحت هذه السلطة بعد خروجها من لبنان؟ وكيف يمكن فهم أنّه بقي يحظى بهذا التمثيل المسيحي وببقائه على تحالفه مع «حزب الله» على رغم قبوله بـ»اتفاق معراب» الذي فتح الطريق أمامه إلى قصر بعبدا؟ وبالتالي لا يمكن وضع تحالف عون مع «الحزب » في موازاة انضواء القوات في تحالف 14 آذار لأنّهما شكّلا نقيضين بين من يتحالف مع من يريد القضاء على الكيان اللبناني، وبين من يتحالف مع من يريد استعادة هذا الكيان.
لا يمثل عون التطلعات المسيحية اليوم بل أحلاماً ومصالح شخصية تتلاقى مع الحرب على المسيحيين وحضورهم في الدولة وبالتالي على الدولة بحد ذاتها. الوجدان المسيحي التاريخي يحاكي الهواجس التي بدأ يعبّر عنها مسيحيون كثيرون. حاول «الحزب » منذ العام 2005 أن يحلّ وصايته الإيرانية محلّ الوصاية السورية. ولذلك واصل الحرب على كل من يمثّل الإرادة اللبنانية وحلم استعادة الجمهورية والدولة. بدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم بغزو بيروت والجبل في 7 أيار 2008 وبالتحكم بموقع رئاسة الجمهورية عن طريق منع وصول أي رئيس يمثّل روح السيادة والإستقلال، ومنَعَ أكثرية 14 آذار في العام 2008 من انتخاب رئيس خلفاً للرئيس إميل لحود، ثم منَعَ هذه الأكثرية من انتخاب رئيس بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. وهو اليوم يحاول أن يفرض رئيساً يعتبر أنّه يؤمّن استمرار سيطرته على الدولة والتحكّم بإرادتها وبإدارتها. لا يمكن تحميل المسيحيين مسؤولية ما يقرّره «حزب الله». فهم في أكثريتهم ليسوا مع هذا الخيار وعبّروا عن تطلّعاتهم في مرحليتن وحدثين: في انتفاضة 14 آذار 2005 وفي انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
تحرير قرار الرئاسة
حاول ياسر عرفات أن يحكم لبنان على أنقاض قوة الحضور المسيحي وفشل. وحاول النظام السوري أن يحكمه على أنقاض هذا الحضور أيضاً وفشل. و»الحزب» اليوم يكرّر المحاولة وعلى رغم فشله لا يزال يحاول. وعلى رغم كل الحروب على هذا الحضور تثبت التطورات والوقائع أن طريق بناء الدولة واستعادة الجمهورية، وهي هدف كل اللبنانيين المعترضين على سياسة «الحزب »، لا يمكن أن تبدأ إلا من خلال إعادة الروح إلى هذا الحضور المسيحي الأساسي في استعادة التوازن. هذا الحضور لا شك في أنّه مسؤولية مسيحية أولاً. ولكنّه مسؤولية الطوائف الأخرى أيضاً. مسؤولية تبدأ من دعوة كان وجهها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى الرئيس ميشال عون قبل انتهاء ولايته لتحرير قرار الشرعية ورئاسة الجمهورية، ومن تحذيره الدائم من محاولة تغيير هوية لبنان. كل ذلك يجب أن يبدأ من الإقتناع بأن لا إمكانية لتكرار تجربة الحكم على حساب المسيحيين، وبأن الرهان على الضعفاء منهم لا يغيّر في الواقع.