23-نوفمبر-2024

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

تشكّل أعداد النازحين السوريين ومخيّماتهم المنتشرة على مختلف الأراضي اللبنانية، المؤشّر الأبرز لحجم الضغوطات التي باتت تواجه لبنان في حمل هذا العبء منذ أكثر من 11 عاماً. ومع ذلك لا تقدّم أي جهة معنية رقماً دقيقاً حول هذا العدد، أو أقلّه تبدي إستعداداً لمشاركته بشفافية وبتجرّد عن الخلفيات. وهذا ما يحوّل الرقم في هذه الحالة مجرّد «تقديرات»، ربّما تضخّمها السلطات الرسمية عندما تتحدّث عن نحو مليونين ومئة ألف نازح على الأراضي اللبنانية. لكنّ ذلك يأتي كنتيجة لعدم إفصاح المنظّمات المانحة وفي طليعتها الـ UNHCR إلّا عن عدد المسجّلين لديها، وبلغ حتى نهاية العام الماضي نحو 815 ألف نازح.

راهناً، ثمّة جهود فردية بذلت في معظم القرى والبلدات التي إحتضنت مخيّمات النازحين، سواء من خلال مراكز المحافظات أم البلديات وحتى الأجهزة الأمنية والعسكرية، لتدارك تداعيات الفوضى الحاصلة. وقد انطلقت هذه الجهود من محاولة لاستيعاب الإحتقان الشعبي الذي ولّدته الأزمة الإقتصادية منذ بدايتها، وبرز تخوّف من انفجاره مواجهات شعبية بين اللبنانيين والسوريين، أو من استغلاله لخلق بؤر أمنية داخل المخيّمات. وهذا ما سمح بتحقيق ولو إحصاء مبدئي لأعداد النازحين في كلّ قرية من القرى التي انتشروا فيها. وكان القاسم المشترك بين هذه الأرقام وأرقام الـ UNHCR، تثبيت منطقة البقاع على رأس قائمة المناطق التي استضافت النازحين من حيث أعداد المقيمين فيها ومخيّماتهم.

أرقام تقديرية

450 ألف نازح هو التقدير غير الرسمي لأعداد النازحين في محافظة البقاع. بينما يبلغ مجموع عدد المسجّلين لدى UNHCR في البقاع الأوسط، البقاع الغربي وراشيا 220 ألف نازح وفقاً لإحصاء منشور عن أعدادهم حتى نهاية عام 2022. وبحسب محافظ البقاع كمال أبو جوده، فإنّ الرقم 450 ألف ثابت منذ عام 2019، حين أجرى إحصاء خاصاً حمله معه الى اجتماع لإدارة الكوارث والأزمات شارك فيه في مركز الأمم المتحدة بجنيف، ورفع خلاله الصوت لمطالبة المجتمع الدولي بمساعدة لبنان لحلّ مشكلة النازحين لديه.

لا شك أنّ طبيعة سهل البقاع الجغرافية وقربه من سوريا، بالإضافة الى العلاقة التاريخية التي تربط هذا السهل باليد العاملة السورية، كان لهما الأثر الأكبر في جعل المحافظة الحاضن الأكبر للنازحين السوريين. إلا أنّ لذلك إرتباطاً أيضاً بالبيئة السياسية والطائفية التي يتميّز بها هذا السهل، والتي تتميّز بتأييدها معارضي النظام السوري.

وانطلاقاً من هنا يمكن فهم مصدر الإرتياح الذي شعر به النازحون السوريون في محافظة البقاع، ليشكّلوا فيه تجمّعات ضخمة لخيمهم، أكبرها مخيّما «العودة» و»الياسمين» في بلدة بر الياس، واللذان يضمّان وحدهما نحو سبعين ألف نازح. فيما يقدّر مجمل عدد النازحين في البلدة بنحو مئة ألف.

ويتبيّن أنّ جزءاً من نازحي بر الياس كانوا قد انتقلوا الى مخيّماتها على أثر أحداث الجرود في عرسال، وذلك قبل أن يتّخذ مجلس الأمن الفرعي برئاسة المحافظ أبو جوده قراره بمنع إضافة أي خيمة جديدة لتجمّعات النازحين في البقاع منذ أكثر من خمس سنوات.

ويشير قائمقام البقاع الغربي وسام نسبيه إلى أنّ أعداد النازحين في منطقة البقاع الغربي وحدها تتخطّى المئة ألف، وتتركّز كثافة هؤلاء بين غزة، المرج، جب جنين، كامد اللوز وحوش الحريمي. علماً أنّ مركز القضاء في جب جنين يضمّ 5 تجمّعات كبيرة للمخيّمات، إلى جانب المخيّمات الصغيرة. ويوازي مجموع المقيمين فيها إلى جانب المقيمين في مبانيها السكنية ضعف عدد أهالي البلدة البالغ نحو 8 آلاف نسمة.

وفي زحلة مخيّمات

إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ تواجد النازحين في البقاع ينحصر فقط في القرى السنّية. فمدينة زحلة مثلاً، تحضن ضمن نطاقها البلدي، جزءاً كبيراً من مخيّمات النازحين، التي تتوزّع في ثلاث مناطق عقارية هي حوش الأمراء (أراضٍ)، المعلّقة (أراضٍ)، وتعنايل، وكلّها نشأت في أراضٍ زراعية تعود ملكية بعضها لمزارعين مخضرمين من أبناء المدينة وجوارها، أجّروا أراضيهم لإقامة المخيّمات التي بدت لهم أكثر ربحاً من زراعتها.

وفي الـ»داتا» التي وضعتها بلدية زحلة حول مخيّمات النازحين، يتبيّن أنّ أكبر هذه التجمّعات هي في منطقة المعلّقة التي تحضن حالياً 52 مخيّماً، وتتراوح أعداد الخيم في كلّ منها، من خيمتين كحدّ أدنى إلى 76 خيمة كحدّ أقصى. فيما تجمع أراضي حوش الأمراء نحو 27 مخيّماً للنازحين، وتعنايل 12 مخيّماً. علماً أنّ قلب مدينة زحلة وأحياءها القديمة شكّلا أيضاً ملجأ لكثير من العائلات السورية. وقد حاولت بلدية زحلة تنظيم أوضاعهم من خلال منعها إقامة أكثر من عائلة في الوحدة السكنية الواحدة. وأعدّت قائمة بالمنازل التي تمّ تأجيرها للنازحين، من دون أن تتمكّن من تحديد الأعداد الدقيقة لهؤلاء، إلا من خلال التبليغات التي توجّه لواحد من شاغلي البيوت على الأقلّ، وقد بلغت أعداد هذه التبليغات منذ سنة 2019 نحو 525 تبليغاً.

على الرغم من هذه الأعداد الضخمة للنازحين، يؤكّد محافظ البقاع أنّه لم يطرأ عليها أي زيادة منذ أن تسلّم مهمّاته كمحافظ في نهاية سنة 2017. حيث جاءت التوجيهات صارمة خلال انعقاد مجالس الأمن الفرعية التي تطرّق كل منها لموضوع النازحين ومخيّماتهم، بمنع إقامة أي خيمة جديدة في أي مخيم، وعدم استقبال أي نازح جديد من خارج لائحة المسجّلين في المحافظة، وهدم كل خيمة تخلو من ساكنيها مباشرة ومنع إقامة خيمة بمكانها تطبيقاً لقرار مجلس الدفاع الأعلى، إلى جانب التشدّد بمنع بناء أي حائط في المخيّمات. وقد طبّقت هذه الإجراءات بصرامة بالتعاون مع قيادة مخابرات الجيش في البقاع والمديرية الإقليمية لأمن الدولة.

قيود رسمية

وكانت محاولة لإخضاع حتى الجهات المانحة للقيود التي فرضتها المحافظة، وخصوصاً لجهة منع أي جهة مانحة أو منظّمة، سواء أكانت محلية أم دولية من التوجه الى هذه المخيّمات، إلا بإذن مسبق من المحافظة. وهو قرار بدأ محافظ البقاع تطبيقه كما يقول منذ شهر آب من العام الماضي، وجرى التنسيق فيه مع وزارة الشؤون الاجتماعية، قيادة الجيش- مديرية المخابرات والمديرية الإقليمية لأمن الدولة، وبالتعاون عند الحاجة مع شعبة المعلومات في الأمن العام والقوى الأمنية.

تَرجمت هذه الإجراءات حجم الخطر الذي بدأت السلطات الرسمية تتلمّسه من انفجار ملف النزوح نزاعات داخلية بين اللبنانيين والنازحين، وخصوصاً عندما ارتاح هؤلاء إلى حدّ استسهال مخالفة القوانين والأنظمة في إقامة المصالح الخاصة، وممارسة المهن التي يحظّر على الأجنبي مزاولتها قانونياً.

من الناحية المبدئية، فإنّ الهيئات والجهات الداعمة للنازحين السوريين عالمة بكل تفصيل يؤدي إلى رفع منسوب التشنّج الذي بات يحكم العلاقة مع النازحين السوريين في القرى التي تحضنهم، كما أنّها تلمس جوّاً عاماً على المستوى الشعبي فرض نفسه على المستوى السياسي والإعلامي، يطالب برفع عبء النازحين السوريين الإضافي عن لبنان، أقلّه بالنسبة للنازحين الذين عادت بلداتهم آمنة في سوريا.

لا يرغب جزء كبير من أهالي البقاع الذين احتضنوا النازحين، بتحميل السوريين شمّاعة أزماتهم، ولا مسؤولية الأزمات التي ولّدها سوء إدارة الدولة اللبنانية ملفّ النزوح السوري، كما معظم ملفات حقوقهم الإجتماعية والإنسانية وحتى الوطنية. إلّا أنهم يحذّرون بأن «الضيق يولّد الخناق»، فيما المعالجات الفردية لنتائج الفوضى التي ولّدها سوء إدارة هذا الملف، من شأنها رفع منسوب التشنّج وتعزيز الغرائز العنصرية التي لا تخدم الهدف، لا بالنسبة للبنانيين ولا السوريين.

ومن هنا يقول محافظ البقاع كمال أبو جوده إنّ الحلّ المستدام لهذا الملف يكون من منطلق مقاربته اللصيقة لهذا الملف، فيكون عبر عقد مؤتمر دولي، تحت إشراف الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، تدعى إليه الدولة اللبنانية والدولة السورية، ويبحث في عودة آمنة ونهائية للنازحين إلى بلدهم.