كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
لم نستفق بعد من هول زلزال شباط. فمشاهد الموت والدمار التي تسبّب فيها لا تزال شاخصة في الأذهان. وتردّداته لم تعلن وقف إطلاق نارها علينا بعد. صحيح أن الكوارث الطبيعية تزيل الفوارق بين البشر. لكن هذا لا يعني أن يُترك الأقل «قدرة» بيننا لمصيرهم. وهنا ثمّة مَن يسأل: مَن يحمي ذوي الإحتياجات الخاصة، على وجه التحديد، من مخاطر الهزّات والزلازل، إن تكرّرت. وهل مَن يوجّه المجتمع على كيفية التعاطي معهم في حالات مماثلة؟ والأهم، الذي هو أشبه بتساؤل العارف: متى تعير الدولة الإنتباه اللازم لواقعهم – بزلازل أو بدونها؟
هذه بعض الأرقام بداية. فأكثر من مليار شخص حول العالم يعانون شكلاً من أشكال الإعاقة، أي ما يقارب 15% من نسبة سكان العالم، بحسب تقرير الأمم المتحدة للعام 2022. وحوالى 17.4 مليون من بين هؤلاء يعانون اضطرابات نفسية بنسبة تزيد بمقدار أربعة أضعاف عن الأشخاص الذين لا يعانون أيّ إعاقة. في لبنان، تتحدّث الأرقام الرسمية عن حوالى 980 ألف بطاقة معوّق شخصية صادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية. لكن هذه أرقام رسمية لا أكثر. لا غرابة في أن الإعاقات تؤثّر سلباً في الحالة النفسية لذوي الإحتياجات الخاصة، حيث يعانون ضغوطاً متكرّرة ولأكثر من سبب. والضغوط تلك تزيد على وقع المتغيّرات الفجائية كالكوارث الطبيعية. هم كثر – في العالم كما في لبنان – ولا يجب تجاهلهم. فلنغص أكثر.
أين الإرشادات؟
البداية مع رئيس الاتحاد الوطني للإعاقة العقلية، د. موسى شرف الدين. فقد أشار في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن العناية بذوي الإعاقة العقلية والنفسية والحركية والبصرية والسمعية يجب أن تكون خاصة. هناك آليات معيّنة لتعاطي هؤلاء مع محيطهم والتكيّف مع العالم الخارجي. «يمكننا، كأشخاص عاديين، التكيّف مع المتغيّرات من حيث الزمان والمكان والمحيط الاجتماعي، كما يمكننا أخذ الاحتياطات اللازمة والتعاطي مع الإنذارات المبكرة بشكل سريع. لكن ما يفتقده ذوو الإعاقة هو التكيّف بهذه البساطة لأن الأمر يتطلّب وقتاً وجهداً وتدريباً»، كما يشرح. هو «روتين» حياة يتكيّف بثلاثة أبعاد ثابتة ودائماً ما يعيشه ذوو الإعاقة: الزمان والمكان والمحيط الاجتماعي – وأي تغيير في أي من تلك الأبعاد يؤدّي حتماً إلى فقدان التوازن في التعاطي. من هنا ضرورة التدريب على اللياقة التكيّفية ما يستلزم الكثير من الوقت والجهد. «لقد لمسنا ذلك بوضوح، مثلاً، إبّان الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، حيث أصابت الحيرة الصمّ والمكفوفين والمقعدين والجالسين على كراسٍ متحرّكة وغيرهم. لقد أصيبوا بحالة من الضياع التام في مواجهة الوضع المستجدّ»، بحسب شرف الدين.
فماذا عن الكوارث الطبيعية، من انهيارات وزلازل وتسونامي، وتأثيرها السلبي على ذوي الإعاقة؟ هناك حاجة لوجود محاذير صارمة تستدعي العناية بهم، برأي شرف الدين: «نحن نتحدّث عن أشخاص مصابين بإعاقات، فما بالكم بأولئك الذين يتعرّضون لإصابات نتيجة الكوارث الطبيعية؟». ويتابع مناشداً بضرورة تأمين آليات يتدرّب عليها العمّال المدنيّون كما الأهالي والمجتمع المحيط بهم بهدف تأمين المعرفة والدراية بالمخاطر التي تتربّص بهم. «هذه معضلات اعترضتنا أيضاً خلال جائحة كورونا. فالمكفوفون لا قدرة لديهم على عدم تلمّس الأشياء، والصمّ لا يمكنهم الإصغاء إلى المحاذير والتعليمات، من هنا ظهرت مشاكل التكيّف». فما المطلوب إذاً؟ على الجهات المسؤولة القيام بخطوات استباقية لتدريب ذوي الإعاقة على مواجهة أي كارثة أو مفاجأة قد يتعرّضون لها من خلال دورات علاجية تنمّي قدراتهم التكيّفية مع الزمان والمكان والمحيط الاجتماعي. فالإرشادات يُفترض أن تُعطى لهم بطريقة مبسّطة وبالصُوَر (Animated) لاستيعاب أفضل لطبيعة السلوكيات والإجراءات الوقائية الواجب التقيّد بها.
طُرُق تعليم متخصّصة
نحن هنا بإزاء عالَم خاص يستلزم التعاطي معه طرقاً مختلفة. في هذا السياق، تشرح مسؤولة القسم التربوي في «جمعية أصدقاء المعوّقين»، رزان الفطايري، خلال اتصال مع «نداء الوطن» كيف تنقسم الصعوبات التعليمية التي تواجه هؤلاء إلى ثلاث أساسية: الأولى، على صعيد المعرفة، وهنا تبرز أهمية البرامج الأكاديمية والعلاجية التي تساعد على تطوير إستراتيجيات النظر والسمع كما تنمية القدرات الذهنية والتحليلية وغيرها؛ الثانية، تتعلّق بالحركة والمهارات التي يتمّ اكتسابها من خلال برنامج علاجي وتدريبي مهني يساعد على الاندماج في سوق العمل وتنمية المهارات الحركية والقدرات الجسدية؛ أما الثالثة، فهي على مستوى الإدراك وتكون معالجتها عبر مساعدة الطلاب على التمييز بين السلوك السويّ والسيّئ، التعرّف والتعبير عن الحاجات، إدراك المخاطر المحيطة وبناء الشخصية.
وبالنسبة لأكثر طرق التدريس استخداماً لتخطّي الصعوبات تلك، لفتت الفطايري إلى منهجية الذكاء المتعدّد حيث تتمّ مخاطبة ذوي الإعاقة وتوجيههم بما يتناسب مع نوع الذكاء الذي يتميز كلّ منهم به (اجتماعي، موسيقي وسمعي، لغوي، بصري…). في حين تُعتبر منهجية «مونتسوري» (Montessori Education) الطريقة العلمية لمراقبة النظام البيولوجي لنموّ الطالب بهدف تصميم منهج تعليمي يراعي الإمكانيات والخصوصيات الفرديّة لكل فرد. ثم هناك منهجية التعلّم من خلال اللعب وتُعدّ أكثر الطرق فعالية كونها تجذب انتباه الطلاب وتشوّقهم ما يحفّزهم على التعلّم واكتساب المعلومات. أما منهجية التعلّم التفاعلي، فتتمّ من خلال تطبيق فيديوات تربوية تفاعلية تتضمّن مثيرات بصرية وسمعية ما يسمح لذوي الإعاقة بالتفاعل مع المثيرات الحسية والأدوات التفاعلية المعروضة على الشاشة. فضلاً عن منهجية التدريس المتبادل Reciprocal Teaching Approach التي تركّز على تَبَادُل الحوار بين المربّي والطلاب ضمن المجموعة بهدف تنمية القدرات التحليلية واللغوية والتصوّر الذهني.
الإضطرابات أنواع
بعيداً عن الصعوبات التعلّمية، نسأل عن الاضطرابات النفسية والسلوكية. وتجيب المعالجة النفسية في الجمعية، نورا محمود، «نداء الوطن»: «ذوو الإعاقة كسائر الأشخاص في المجتمع يعانون اضطرابات نفسية وسلوكية، لكنهم يشعرون بالظلم الاجتماعي وعدم المساواة والتنمّر والإساءة أكثر من غيرهم. وهذا يدفعهم إلى فقدان الثقة بالنفس والقدرة على التكيّف الاجتماعي». والإضطرابات أنواع. فهناك السلوكي منها: اضطراب فرط الحركة، نقص الإنتباه، متلازمة «توريت» (Tourette Syndrome)، العناد والتمرّد والعدائية، التبوّل اللاإرادي وغيرها. ومنها النفسي: القلق، الاكتئاب، الخوف، الوسواس القهري، أذيّة الذات ومشاكل الأكل كالنهم أو فقدان الشهية. وتأتي التقلّبات المزاجية السريعة والشعور الدائم بالوحدة والاعتمادية وكثرة البكاء فوق هذه وتلك.
وللمشاكل الاجتماعية حصّة أيضاً. فذوو الإعاقة يواجهون العديد من التحدّيات الاجتماعية كالمشاكل الأسرية، التعامل مع الأصدقاء، عدم فهم الآخر حاجاتهم، وصعوبات التعلّم واكتساب مهارات الحياة اليومية وتحقيق الاستقلالية. «يعود السبب في ذلك إلى الإجحاف بحقّهم وإشعارهم بأنهم عبء على غيرهم في معرض توفير متطلبات الحياة كافة، بدءاً بتنقّلاتهم المنزلية الداخلية إلى تحرّكهم داخل البيئة المحيطة في المجتمع»، على حدّ قول محمود. أما أبرز أسباب الاضطرابات السلوكية والنفسية، فتعود إلى الشعور بالنقص، الدونية، الانطوائية، عدم القدرة على الاعتماد على الذات، ضعف الشعور بالانتماء، صعوبة تكوين علاقة جيّدة مع الآخرين، الشعور بالتوتّر الداخلي ومحاولة جذب الانتباه بأساليب مختلفة وغير سويّة.
والمسؤولية مشتركة
الأسرة، تعريفاً، هي الخلية الأولى للمجتمع. وهكذا يكتسب دورها في حياة المعوّق أهمية إضافية. ويبدأ ذلك منذ مرحلة الطفولة من تعليم وتدريب ومساعدة في الاختيار السليم لمهنة المستقبل التي تواكب قدراته ونوع إعاقته. ويصل إلى تأهيل الطفل المعوّق للاعتماد على ذاته في حدود قدراته، وذلك من خلال تقبّله وتدريبه ورعايته وتهيئته للتكيّف مع المجتمع. وتعميماً، لا يقلّ دور المجتمع أهمية في هذا السياق. إذ تقع على عاتقه مسؤولية نشر الوعي المجتمعي واعتبار ذوي الإعاقة جزءاً لا يتجزّأ منه. ويكون ذلك من خلال المساهمة في دمج هؤلاء ضمن أماكن الدراسة والعمل، وتعزيز الوعي الثقافي لأفراد المجتمع وإشراكهم ضمن نشاطات تربوية ورياضية تساهم في تعزيز ثقتهم بنفسهم وحمايتهم من العزلة والاكتئاب. والمحطة الأخيرة هي بيت القصيد. فدور الدولة محوريّ في تسهيل حركة ذوي الإعاقة – والذي يُعتبر من أبرز حقوقهم – من خلال تصميم الأماكن العامة والخاصة بما يُسهّل عليهم الوصول إلى وجهاتهم على اختلاف إعاقاتهم.
نشاطات الجمعيات والمبادرات الفردية مشكورة طبعاً. لكنّ الاهتمام الرسمي المترنّح، في أفضل الأحوال، له ما له من أثر على صحة ذوي الاحتياجات الخاصة النفسية. من الافتقار إلى الرعاية الصحية المناسبة بسبب ارتفاع التكاليف، إلى عدم توافر المؤسسات المتخصّصة بتقديم الرعاية الصحية والنفسية الخاصة، كما تعرّض هؤلاء إلى سوء معاملة وإهمال في أحيان كثيرة. من هنا تؤكّد محمود على ضرورة إجراء الاستشارات الطبية الدورية واحتواء أفراد الأسرة للشخص المعوّق مع الحرص على منحه وقتاً يومياً للتعبير عن أفكاره. هذا إضافة إلى الحفاظ على نظام غذائي متوازن والمثابرة على التمارين الرياضية كما التواصل الاجتماعي الذي يحدّ من مشاعر الوحدة والانعزال. «بصفتي معالجة نفسية، أقوم بإعداد برامج تهدف إلى تعديل سلوك الطفل المعوّق بهدف خفض حدّة الاضطرابات السلوكية، مع تطبيق برامج التربية المختصّة التي تعمل على إكساب الطفل السلوكيات الجيّدة. كما يشمل دوري الإرشاد الأُسَري الذي يُعتبر جزءاً لا يتجزّأ من برامج العلاج السلوكي، حيث يجري استدعاء الأهل لدعمهم معرفياً ومعنوياً ونفسياً، وإغنائهم بالطرق الصحيحة للتعامل مع أطفالهم»، كما تختم.
قد يقول قائل إننا جميعاً في البلية سواء في لبنان بنسخته الحالية. وهذا مع الأسف صحيح. لكن تحقّق المساواة بين ذوي الاحتياجات الخاصة ومحيطهم بالبعد الإيجابي، لا السلبي، للمساواة ليس ترفاً مرتبطاً بأزمة من هنا أو أخرى من هناك. قد يكون زلزال شباط مناسبة لإلقاء الضوء – مجدّداً – على واقع هؤلاء. أما المطلوب فزلزال من نوع آخر يفيق «صفائح» الالتفاتة الرسمية الجادة والمستدامة بهم من سبات عميق.