جاء في “الراي” الكويتية:
… لقاءٌ على الضريح. هكذا كان المشهد أمس، في باحة مسجد محمد الأمين في وسط بيروت، حيث عادت عقارب الساعة 18 عاماً إلى الوراء، إلى ذاك اليوم الأسود في 14 شباط 2005 حين وقع الاغتيال – الزلزال الذي كُسرت معه أقفال «بوابات جهنم» الذي يتخبّط فيه لبنان اليوم، وأُحرقت «الخطوط الحمر» وشُطب الرجل الذي أخرج بيروت من تحت الردم ليبدأ مسار تحويل البلد… «رماداً».
لم تكن المرة الأولى يحتشد مناصرو تيار «المستقبل» في ساحة الشهداء لإحياء ذكرى الرئيس رفيق الحريري، فهم كانوا على الموعد كل سنةٍ لإطفاء «شمعة الموت» وتجديد «الوعد بإكمال الدرب».
لكن 14 شباط 2023 جاء مختلفاً، حيث كان اللقاء مزدوجاً على الضريح، مع «دولة الشهيد» الذي يقيم في قلب بيروت الذي توقّف لحظة اغتياله ولم يستعِد منذ ذلك التاريخ المشؤوم نبضَه المعهود، ومع الرئيس سعد الحريري «العائد» من اعتكافٍ عن العمل السياسي أعلنه قبل 13 شهراً ولم تتوافر بعد عناصر «العودة عنه».
مدجَّجةً بالرمزيات، جاءت المشهديةُ الحاشدةُ في محيط المسجد، حيث فاضتْ مشاعرُ احتبستْ خلف دموعٍ مكتومةٍ في عيون الحريري الابن، الذي تَعَمَّد أن يغلّب الطابعَ الوجداني والاجتماعي على المناسبة هذه السنة، ويغيِّب السياسةَ التي يغيب عنها بقرار «اختياري – قسري» اتخذه بعد سلسلةِ خيْباتٍ ومسارٍ أقرب إلى «التنكيل السياسي» الداخلي واقتناعٍ «بأن لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان، في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة»، وفق ما كان جاء في بيان الاعتكاف.
فالحشد الذي التفّ حول الضريح، بدا وكأنه أتى، لا ليذرف دمعةً بل ليغرف قطرة ضوء من حيث يرقد حلمٌ انكسر ومعه خاطر بيروت التي مازالت ترثو مستقبلها، وهي مضرجة بـ «دم» وطنٍ مازال يُسفك في صراعٍ إقليمي اقتيد إليه منذ 2005 وأطاح تباعاً بكل «أحزمة الأمان» التي كانت تزنّره و«أهدى» بلاد الأرز حزاماً ناسفاً انفجر منذ 2019 بواقعها المالي والاقتصادي والنقدي والمصرفي الذي تحوّل… حطاماً.
على الضريح، لاقى الآلاف، الحريري الذي انسحب من المشهد السياسي من دون أن تُسحب منه زعامةٌ أراد جمهوره، أن يؤكد أنها لا تؤول لغيره، فكان شعار «ما خلصت الحكاية» بمثابة تجديد المبايعة لـ «الحريرية السياسية» ولسعد رفيق الحريري إلى أن يضع نقطةً في آخر سطر مسيرةٍ لم يعلن نهايتَها بعد.
ممتنّاً كان الحريري لجمهوره الذي تقاطر من دون تحشيدٍ أو أطر تنظيمية متمنياً عليه العودة عن تعليقه العمل السياسي، وهو حرص على مصافحة الصفوف الأولى من المناصرين الذين رفعوا صوره والرئيس الشهيد وكانوا يهتفون باسمه وقرأوا معه سورةَ الفاتحة عن روح الحريري الأب التي تلاها متوسطاً عمّته بهية وعمه شفيق.
وفي أول الكلام عقب عودته إلى لبنان، قال زعيم «المستقبل» قبيل مغادرته وسط بيروت «الله يرحم الرئيس رفيق الحريري… والله يعين لبنان»، لينتقل بعدها إلى «بيت الوسط» حيث كانت في انتظاره حشود جماهيرية كثيفة، وقد خاطبهم عبر مكبّرات الصوت قائلاً: «انتو ضمانة لبنان… الله يبارك فيكم… هالبيت رح يضلّ مفتوح بوجودكم ومكمّل المشوار بإذن الله… الله يرحم الشهيد رفيق الحريري».
وفي موازاة البُعد الشعبي، اتجهت الأنظار إلى الوفود التي أمّت الضريح، وكان بينها السفيرة الأميركية دوروثي شيا، كما إلى اللقاءات التي عقدها الحريري مع شخصياتٍ سياسية والاتصالات التي تلقّاها من قادة لبنانيين، وإن لم يتطرّق فيها إلى ملفات الساعة في «بلاد الأرز» التزاماً بانكفائه عن العمل السياسي ما دامت حيثياته لم تتبدّل.
وإذ كان لافتاً الاتصال الذي تلقّاه الحريري من الرئيس السابق ميشال عون، الذي تمنى عليه «العودة إلى لبنان بعد طول غياب، لأن الوطن يحتاج اليوم إلى جميع أبنائه وطاقاته»، برز أيضاً استقبال زعيم «المستقبل» لرئيس حزب الكتائب سامي الجميل، فيما أعطت مشاركة عدد من النواب السنّة الذين فازوا بالانتخابات الأخيرة في المناسبة، كما لقاء الحريري مع أمين سرّ «تكتل الاعتدال الوطني» النائب السابق هادي حبيش، إشارةً إلى أن طيْف «المستقبل» ليس غائباً عن برلمان 2022 رغم مقاطعة التيار.
علماً أن نواباً سابقين من كتلة «المستقبل» ترشحوا خلافاً لقرار الحريري ولم يفوزوا حضروا أيضاً إلى بيت الوسط الذي بدا وكأنه أعاد لمّ شمْل دائرته الكبرى.
ونقل عن الحريري، حديثه عن مناخات غير متفائلة بقرب خروج لبنان من النفق فـ «لا أفق» قريباً للحل، ولا مخرج في المدى المنظور للانتخابات الرئاسية التي تدور في حلقة مفرغة منذ أشهر، وأنه على خياره بالانكفاء حتى إشعار آخر.