22-نوفمبر-2024

كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”: 

بات تحلُّل الدولة واقعاً وليس مجرّد تحذير من مرجعيات دينية وسياسية، فالمؤسسات والإدارات العامة تنهار مع انهيار الليرة وشلل عمل السلطات الدستورية بدءاً من الفراغ الرئاسي، وصولاً الى التضارب في القضاء والشغور الذي يطاول وظائف عامة عدة، خصوصاً في الفئة الأولى. ويشكّل هذا الشغور قلقاً مسيحياً، ما دفع بالبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى تعلية الصوت معتبراً أنّ «هناك شغوراً مقصوداً في المؤسسات الماليّة والعسكريّة»، محذّراً من «مخطط قيد التحضير لخلق فراغ في المناصب المارونيّة والمسيحيّة».

نفي نصرالله لا يُطمئن

تحذير الراعي هذا استدعى رداً من الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، فنفى «أيّ نيّة لإفراغ المواقع المسيحية»، محذراً «مطلقي الإنذار» من «اللعب على الوتر الطائفي المسيحي – المسلم عن قصد أو عن غير قصد». لكن نفي نصرالله هذا لم يُطمئن بكركي، فأتى الرد على ردّ نصرالله من مجلس المطارنة الموارنة، الذي كرّر موقف الراعي، محذّراً، في بيان إثر اجتماعه في 18 من الجاري، من «وجود مخطط مرفوض لإحداث فراغٍ في المناصب المارونية خصوصاً والمسيحية عموماً في الدولة»، معتبراً أنّ ذلك «إنْ دلّ على شيء، فعلى نيّة خفيّة ترمي الى تغيير هويّة لبنان… كذلك ترمي الى تلاشي الدولة اللبنانية وصولاً الى وضع اليد على أشلائها. وهو ما سيتصدّى له اللبنانيون واللبنانيات بكلّ قواهم».

الشغور في المناصب الحسّاسة في الدولة وفي الفئة الأولى من الوظائف العامة لا يُطاول المواقع المسيحية فقط بل المسلمة أيضاً. وإذا استمرّ الفراغ الرئاسي، ستُخلق أزمة كبيرة على مستوى التعيينات، في ظلّ رفض الشريحة المسيحية أن تجري حكومة تصريف الأعمال هذه التعيينات، فضلاً عن مقاطعة «التيار الوطني الحرّ» المكوّن المسيحي الأساس في هذه الحكومة، لمجلس الوزراء ورفضه لانعقاده.

الشغور بالأرقام

هناك وظائف عامة عدة ستشغر خلال هذا العام، ومن أبرز من سيُحالون الى التقاعد والذين يشغلون مناصب حسّاسة، المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في الثاني من آذار المقبل، ومدير الإدارة في الجيش اللبناني العميد مالك شمص، ثمّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مطلع تموز المقبل، وبعده قائد وحدة الدرك في قوى الأمن الداخلي العميد مروان سليلاتي في تشرين الأول المقبل. كذلك يُحال الى التقاعد عام 2024، كلّ من قائد الجيش العماد جوزاف عون والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات وعدد من المديرين العامين.

وعلى مستوى الوظائف في الدولة اللبنانية المُصنّفة فئة أولى، هناك 179 وظيفة، موزّعة بين 89 منصباً للمسيحيين و90 للمسلمين، من بينها عرفاً، 50 وظيفة للموارنة، 18 منها شاغرة أو ستشغر، و13 للروم الأرثوذكس، 8 منها شاغرة، و18 للروم الكاثوليك، 5 منها شاغرة، و5 للأرمن الأرثوذكس منصب منها شاغر، و3 مواقع للأقليات واحد منها شاغر، بحسب ما يوضح الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، في حديثٍ لـ»نداء الوطن». وبالتالي هناك 33 منصباً مسيحياً في الفئة الأولى شاغراً من أصل الـ89 منصباً، أي أنّ 37 في المئة من هذه المناصب شاغرة أو ستشغر في الأشهر المقبلة، ومنها مناصب مهمة جداً مثل مدير عام الجمارك المعيّن بالوكالة، ومدير عام المالية الموقع الشاغر منذ أكثر من سنتين، وموقع حاكم مصرف لبنان الذي سيشغر في تموز المقبل. وهذا الشغور يطرح مشكلة طريقة ملء هذه الوظائف، بحسب شمس الدين.

الشغور يطاول أيضاً الوظائف المخصصة للمسلمين، بحيث هناك 40 منصباً شاغراً من أصل الـ90 وظيفة، فمن أصل 39 موقعاً للسنّة هناك 15 منصباً شاغراً، في المقابل هناك 18 موقعاً شاغراً من أصل 35 منصباً للشيعة، ومنصبان شاغران من أصل 14 موقعاً للدروز، فيما أنّ المنصبين المخصّصين للعلويين، أي محافظ بعلبك – الهرمل ومدير عام البريد غير شاغرين.

مقاربة بكركي وطنية

هذا الشغور لم يطاول الوظائف المُصنّفة فئة أولى، مع انتهاء عهد الرئيس ميشال عون وحلول الفراغ الرئاسي، بل هناك مواقع شاغرة منذ سنوات ومنذ عهد الرئيس ميشال سليمان، بسبب غياب التوافق على هذه التعيينات، بحسب شمس الدين. وعلى سبيل المثال، إنّ وظيفة مدير عام السياحة المخصّصة للسُّنة شاغرة منذ 7 سنوات، وهناك منصب في رئاسة الحكومة شاغر منذ نحو 12 عاماً. وعلى رغم أنّ الشغور يطاول الوظائف المُخصّصة للمسلمين كما المسيحيين على حدٍ سواء، إلّا أنّ «الصرخة» تعلو من المسيحيين، ومن المرجعية الدينية المارونية الأولى. وهذا مردّه، بحسب شمس الدين، الى أنّ «المسيحيين يشعرون بأنّهم باتوا أقلية عددية ودورهم أن يحافظوا على وجودهم وأن يتمسّكوا بكلّ المناصب المخصّصة لهم في الدولة. وبالتالي يعتبرون أنّ أي شغور يتضرّرون منه كأقلية أكثر ممّا يتضرّر المسلمون منه».

الكنيسة المارونية تقارب هذا الموضوع من منظارٍ وطني. وعلى رغم أنّ ثوابت بكركي لبنانية ولقد ساهمت مساهمة أساسية في صوغ وهندسة الكيان اللبناني و»اتفاق الطائف» وانتفاضة الاستقلال، إلّا أنّها معنية أيضاً مباشرةً بالمواقع المارونية، وترى أنّها مستهدفة، من رئاسة الجمهورية إلى حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. وتلفت البطريركية المارونية النظر إلى خطورة الشغور في هذه المواقع الثلاثة، ليس لأنّ شاغليها موارنة فقط، بل لأنّها مواقع أساسية ومفصلية تؤثّر على الاستقرار العام، وليست شكلية وثانوية، فرئيس الجمهورية هو رئيس الدولة والرئاسة الأولى تحقّق استقراراً سياسياً، فيما تؤمّن قيادة الجيش الاستقرار العسكري والأمني وحاكمية مصرف لبنان الاستقرار المالي. وبالتالي من هذه الزاوية، تشدّد بكركي على أنّ هذه المواقع الثلاثة عندما تكون في خير يكون الاستقرار السياسي والأمني والمالي في خير.

ويوضح المطران حنا رحمه لـ»نداء الوطن»، أنّ تحذير البطريرك من الشغور، يتركّز تحديداً على المناصب الحسّاسة، مثل قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، فالشغور في هذه المواقع يعني أنّ «البلد سيفرط»، أمّا إذا كان هناك تفكير بتغيير الطوائف في هذه المناصب فهذه كارثة، وإذا كان هناك إرادة للفراغ بهدف الخراب فـ»هاتان كارثتان». ويشير الى أنّ «الشغور في المراكز الكبيرة والحسّاسة، يعني الخلل في التوازن تماماً في البلد، فبلا قائد للجيش أو حاكم لمصرف لبنان، أو في حال تسلّم نائب أي منهما هذين المنصبين، فهذا يعني تغيير في التركيبة وتخريبها».