22-نوفمبر-2024

كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:

يرسم بعض الديبلوماسيين صورة تشاؤمية عن مسار الوضع الإقليمي. وإذ يقلّلون من مخاطر اندلاع حرب واسعة، فإنّهم يعتقدون أنّ المنطقة مقبلة على المزيد من الإرباك والفوضى، بين الدول وداخل حدود العديد منها، ومنها لبنان.

المعلومات التي تقاطعت لدى هؤلاء، تجزم أن لا مخارج من المأزق اللبناني الحالي في المدى المنظور، لا لأسباب داخلية فحسب، بل لاعتبارات خارجية في الدرجة الأولى. فالعراقيل التي تبدو داخلية هي في الواقع ترجمة للصراع الخارجي. ذلك أنّ أطرافاً لبنانيين نافذين يضطلعون بأدوار الوكلاء لقوى خارجية، وهم لا «يقطعون خيطاً» في الداخل إلّا بالتنسيق مع الخارج.

قبل عام تماماً، مطلع 2022، كانت التسوية في لبنان على وشك أن تتحقق. فالأزمة الإقليمية الأكثر تأثيراً في الوضع اللبناني، أي المواجهة حول ملف إيران النووي ونفوذها الإقليمي، بين طهران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة والغرب وإسرائيل من جهة أخرى، كانت على وشك أن تُطوى.

كان الرئيس جو بايدن قد وصل إلى البيت الأبيض، في كانون الثاني 2021، بنهج مناقض لذلك الذي اعتمده سلفه دونالد ترامب. وعمد إلى تكثيف وتيرة المفاوضات في فيينا، سعياً إلى إنجاز اتفاق، خصوصاً أنّ إسرائيل كانت على وشك الغرق في أزماتها السياسية الداخلية، بسقوط حكومة بنيامين نتنياهو الذي بقي ممسكاً بالسلطة 12 عاماً متواصلة، أي منذ 2009.

واستراتيجية بايدن، التي تشكّل استمراراً لاستراتيجية باراك أوباما، تقضي بـ”ترتيب” موقع إيران وحدود نفوذها الإقليمي، ووقف تورّط واشنطن في أزمات الشرق الأوسط، والعمل على إدارة شؤونه عن بُعد، كي تتفرّغ للمواجهة الاستراتيجية الكبرى مع الصين.

ولكن، وفيما كان الاتفاق في فيينا منجزاً تقريباً، اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، في شباط 2022، فأُعيد خلط الأوراق تماماً، وتعثر الاتفاق حول الملف النووي. وبهذا التطور، دخلت البلدان العربية التي تتمتع فيها إيران بالنفوذ مرحلة مراوحة ستستمر إلى أن يتحقق الانفراج في الملف النووي أو حتى ينهزم طرف أمام الآخر: الولايات المتحدة أو إيران.

فالإيرانيون يراهنون على أنّ واشنطن سترضخ في النهاية لمطالبهم حول الملف النووي، ويعتقدون أنّ عامل الوقت يعمل لمصلحتهم. وفي المقابل، يراهن الأميركيون على أنّ النظام الإيراني يتعرّض لضغوط عنيفة من الداخل ستدفعه في النهاية إلى التراجع والليونة. لكن لعبة عضّ الأصابع بين الطرفين مستمرة، ومعها أزمات البلدان التي تُعتبر ساحة صراع، لبنان والعراق واليمن وسواها.

ويتحدث ديبلوماسي عربي واسع الإطلاع عن 3 إشارات تَأزّم إقليمية تترك وقعها على الوضع العربي حالياً:

1- الموت السريري للاتفاق مع إيران حول الملف النووي والنفوذ الإقليمي.

2- مضيّ إدارة بايدن في تنفيذ سياسة «التخلّي» عن الشرق الأوسط، بمعنى وقف تورُّطها المكْلِف في أزماته.

3- دخول إسرائيل مرحلة غير مسبوقة من المواجهات الداخلية، على أسسس سياسية ودينية وقومية، ليس فقط بين اليهود والعرب بل أيضاً بين المكوّنات اليهودية نفسها. فحكومة بنيامين نتنياهو، ببعض مكوناتها الشديدة التطرّف دينياً، ستشكّل عبئاً حتى على الولايات المتحدة. وعلى الأرجح، ستمر العلاقة بين الطرفين بمرحلة غير مسبوقة من الاضطراب.

وفي هذا السياق، يتوقع خبراء أن تسلك حكومة نتنياهو نهجاً متهوراً جداً في التعاطي مع بعض ملفات الداخل الفلسطيني وعلى الحدود الشمالية، ما قد يفتح الباب لمغامرات غير محسوبة تشعل الوضع.

وتَقاطع الإشارات السلبية الثلاث إقليمياً يمكن اعتباره مِن سوء الأقدار بالنسبة إلى الوضع اللبناني، لأنّه يعني انسداد الأفق أمام أي تسوية، ولو ظرفية. ولذلك، لا رئيس جديداً للجمهورية في الأفق، ولا مخارج من المأزق السياسي- الطائفي، ولا أي انفراج مالي أو نقدي أو اقتصادي، ولا مساعدات يُرتَقب تحصيلها من أي جهة عربية أو دولية، إلّا البسيط منها وما يحمل الطابع الإنساني.

وعلى رغم الجهود الحثيثة التي يبذلها الأوروبيون، والفرنسيون خصوصاً، فلا مجال لولادة أي تسوية لبنانية في المدى المنظور. ولذلك، قُطعت الطريق سريعاً على مساعي فرنسا- وسويسرا قبل فترة- لإقامة أشكال تجريبية من الحوار اللبناني الداخلي.

وعلى العكس، يحذّر الخبراء من الأسوأ، أي من مغبة تجاهل القوى الداخلية لمخاطر الوضع الإقليمي وانعكاسه على لبنان. فمناخ التدهور المالي والاقتصادي والسياسي- الطائفي، بلا ضوابط، وسط انشغال المجتمع الدولي بأزماته وحروبه، يمكن أن يأخذ البلد إلى مكان أكثر صعوبة. ففي هذه الحال، سيغرق البلد أكثر فأكثر، ولن يجد أحداً في العالم حاضراً لمساعدته على النهوض.