كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
بعد الاتفاق على الترسيم، توقَّع البعض أن تكون نهاية العهد سعيدة، إن لم يكن بانتخاب رئيس للجمهورية، فعلى الأقل بتشكيل حكومة جديدة تجنِّب البلد مخاطر الفوضى الدستورية والمزيد من الانهيارات. واعتقد البعض أنّ الاستقرار سيكون مطلباً دولياً لتسهيل استثمار الغاز وتوزيعه، وفتح الأبواب لخطوات لاحقة. لكن هذا التوقّع المتفائل لم يتحقق، وبدأت تظهر ملامح الفوضى الدستورية.
يمكن أن تكون هذه الفوضى ناتجة من تخطيط جرى درسه وتحضيره جيداً، بهدف الوصول إلى إنتاج ستاتيكو سياسي جديد أو حتى نظام بديل للطائف يعبّر عن التوازنات الحالية، وتحديداً عن التفاهم الضمني بين إدارة الرئيس جو بايدن وإيران. وهذا الأمر قد يتكشف يوماً بعد يوم.
ولكن، هناك مَن يخشى أن يذهب البلد إلى وضعية تصبح فيها الفوضى أكبر من قدرة القوى المعنية على ضبطها. وهذا الاحتمال وارد، ولو كان مخططاً لمشهد الفوضى أن يكون ظرفياً وعابراً.
أصحاب هذا الخوف يعتقدون أنّ لبنان أضاع اللحظة النادرة التي دفعت القوى الإقليمية والدولية إلى الاهتمام الأقصى بالوضع اللبناني، بدافع إبرام اتفاق الترسيم مع إسرائيل وتسهيل تدفق الغاز من حقولها البحرية إلى أوروبا.
فهذه اللحظة ربما شكّلت الفرصة الوحيدة المعاكسة لوضعية العقوبات والحصار الغربية على لبنان منذ 3 سنوات على الأقل. وكان يمكن للبنان أن يستفيد من تلاقي الأميركيين والإيرانيين على ساحته، بعدما دفع غالياً وعلى مدى سنوات ثمن التصارع الشرس. ويتجلّى ذلك باستقرار سياسي يترجمه اتفاق على تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، وتَحسُّن في الوقائع المالية والاقتصادية.
وللتذكير، هناك إشارات عدّة إيجابية أطلقتها المؤسسات الدولية تجاه لبنان عشية ولادة اتفاق الترسيم وفي الساعات الأولى بعد التوقيع، ومنها إشارة بعض مؤسسات التصنيف الدولية إلى احتمال تحسين تصنيف لبنان السيادي.
ولكن، هل الانطباع الإيجابي الذي كان يعوَّل عليه غداة التوقيع ما زال قائماً؟
قد يكون لبنان أضاع الفرصة مرّة أخرى بالمناكفات الداخلية. فالقوى المعنية باتفاق الترسيم قطفت الثمار التي تريدها، وانصرف كل منها إلى شؤونه: الإسرائيليون حصلوا على براءة الذمة للبدء في استخراج الغاز وتصديره، وهم باشروا ذلك فوراً. وأما الأميركيون فقد نجحوا في رعاية الاتفاق الذي يخدم حلفاءهم، وتكفّلوا بإبعاد روسيا عن الطبق اللبناني، فيما ارتاح الأوروبيون إلى تنويع مصادر الطاقة التي يحتاجون إليها في منأى عن موسكو.
في هذا المناخ، كان لبنان قادراً على قطف الثمار فوراً و»ضرب الحديد وهو حامٍ»، بتشكيل حكومة فاعلة وانتخاب رئيس للجمهورية وإقرار تشريعات مالية واقتصادية إصلاحية، ما يبدّل نظرة المجتمع الدولي تجاهه، وينهي نهج المقاطعة والحصار.
لكن أركان السلطة قرّروا إضاعة الفرصة. وعلى الأرجح، سيقود ذلك إلى المزيد من التدهور المالي والنقدي والاقتصادي والسياسي. وفيما الأميركيون ينهمكون بانتخاباتهم الفرعية ونتائجها، والفرنسيون وسائر الأوروبيين مستنفرون لإبعاد الأذى اللاحق بالقارة من بوابة أوكرانيا، سيجد اللبنانيون أنّهم ليسوا موضع اهتمام من أحد.
في اتفاق الترسيم، لبنان «أدّى قسطه للعلى» بالتوقيع، ومنح الأقربين والأبعدين ما يريدون، ثم تصرَّف وكأنّه في أحسن أحواله المالية والاقتصادية والسياسية. فهو لا يبدو مستعجلاً استثمار اللحظات الإيجابية وتطويرها للخروج من الهوة السحيقة. وقد يصرخ اللبنانيون من الألم، ولكن لا أحد في العالم سيسمعهم ولا يمتلك الوقت أو الرغبة في إنقاذهم، ما داموا هم أنفسهم يتنكرون لمحاولات الإنقاذ، المرة تلو الأخرى.
فقط، سيضظر المجتمع الدولي إلى التدخّل في لبنان، إذا سقطت الدولة تماماً وبدأت المجموعات الطائفية والمذهبية تتقاتل وتتآكل، واندفع النازحون نحو أوروبا هرباً من الجحيم. وما دون ذلك، ستبقى القوى الدولية متفرجة على انهيار لبنان، وستستثمر كل منها مناكفات اللبنانيين في خدمة مصالحها.
بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، تحرَّك الرئيس إيمانويل ماكرون وموفدوه في لبنان بكثافة استثنائية، فتركوا شؤون فرنسا وجاؤوا لإنقاذ الصديق الصغير المنكوب. ومِن قهرهم وإحباطهم، رفع بعض اللبنانيين آنذاك شعار العودة إلى الانتداب الفرنسي، لفترة معينة، لعلّ ذلك يشكّل باباً للخلاص.
طبعاً، انتفض «الغيارى». فكرامتهم الوطنية تأبى عليهم ذلك، علماً أنّ لبنان واقع اليوم تحت «كوكتيل انتدابي واستعماري» يعترف به الجميع. وفي المرحلة المقبلة، قد لا يجد اللبنانيون مَن يلتفت إليهم، إلّا إذا كان الأمر يتعلق بمفاوضات جديدة على غرار الترسيم البحري وتقاسم الغاز.