29-نوفمبر-2024

كتب عماد موسى في “نداء الوطن”:

غاب السبعيني الشاب الأنيق دائماً، الحاضر بكامل “ذخيرته” السياسية والفكرية، العابر للصداقات، المتميز بثراء ثقافته، بنبرته الحازمة، بنضارة لغته، بتحفّزه الدائم للحوار الجديّ العميق. غاب سجعان قزّي أمس تاركاً من توقَعوا عودته إلى الكتابة في حيرة. ترك كل شيء وانسحب. أُجبر على الإنسحاب. سرطان القولون القاتل أجبره… ثم قتله.

كتائبياً كان قزي على تقطّع، بشيرياً على طول. كتب كل خطابات بشيرالجميل، “ما عدا واحداً”. فاوض باسمه قيادات لبنانية وفلسطينية في أعوام الحرب الأولى. خطفته حركة “أمل” في مطلع الثمانينات وكُتبت له حياة جديدة ومثمرة بعد تلك الحادثة.

في سبعينات القرن الماضي لمع اسم سجعان في إذاعة “صوت لبنان” محاوراً بعد تجربة صِحافية في “العمل”. ومن أرقى الحوارات الباقية في البال، واحد أجراه مع النائب السابق المحامي محسن سليم. والد لقمان. ثم أسس “إذاعة لبنان الحرّ” وظلّ على رأسها، معلّقاً سياسياً بوتيرة يومية، حتى موعد هجرته القسرية إلى باريس، بعد تداعيات “الإتفاق الثلاثي” في العام 1986. في باريس أصدر نشرة بالفرنسية (MIB) وعمل طوال اثني عشر عاماً خبيراً في شؤون الشرق الأوسط. العام 1999، عاد إلى بيروت ليخوض غمار السياسة في حزب الكتائب، وهو من عاصر كل التقلّبات إلى أن انقلب هو على خيار الحزب، يوم قرّر الشيخ سامي، سحب وزرائه من حكومة الرئيس تمّام سلام. فاستجاب آلان حكيم، وتذرّع رمزي جريج بأنه حليف وليس حزبياً وتمرّد سجعان فبقي صاحب المعالي سعيداً باللقب بعدما فشل في الحصول على لقب “سعادة نائب كسروان/ الفتوح”. كان الرفيق سجعان طموحاً راغباً في موقع يستحقه، وما أخفى طموحه يوماً. ومجتهداً أيضاً، كباحث في قضايا لبنان والشرق الأوسط، وصاحب أفكار ومبادرات وطروحات.

كتب كثيراً عن المسيحيين والقضية اللبنانية وعن الأزمة الكيانية وعن الحياد. في أيلول 2004، نشر كتابه الثاني،”سياسة زائد تاريخ”، وفيه ما يمكن أن يكون مادة إشكالية معاصرة كمثل هذا التوصيف. “يشعر المسيحيّون أن غالبية صيغ الحلول التي عُرضت لمعالجة “القضية اللبنانية” (الوجودُ المسيحي الحرّ، والتعايش المسيحيُّ ـ الإسلامي) إرتطمت بتعقيدات تكوين لبنان وتاريخه وموقعه: إذا اعتمد المسيحيّون وحدة مركزية، جبهتهم الفوارق الحضارية المتفاقمة في المجتمع. وإذا اقترحوا الفدرالية واجهتهم تعقيدات تطبيقها. وإذا ناداهم التقسيم وبّخهم التاريخ وعبست بهم الديموغرافيا. وإذا طالبوا بالعلمنة علاجاً للطائفية زَجَرَتهم الأديان واتهمتهم بالإلحاد”.

ومن مؤلفات قزي”فصول من تاريخ لبنان – من الفينيقيين إلى الصليبيين” و”لبنان والشرق الأوسط ـ بين ولادة قيصرية وموت رحيم”.

في معظم ما كتب لم يخطئ يوماً في التشخيص، ولا في التوصيف. حافظ على رصانة الباحث وثبات إيمانه بلبنان كما يراه كثيرون. أغرته السياسة؟ نعم وبقوة. لكنه لم يبع قناعته في سوق الكراسي والمناصب.

ذات يوم، وفي أثناء عملي في الـ “أل بي سي” طلب منّي (بالأمليّة) إحضار نظارتيه من السيارة.”أستعملهما للقريب” قال. علّقت “إستاذ للعمر موجباته” إنتفض وقال لي بعدما رفضت الإفصاح عن عمري “أنا أكبر من جورج غانم بسنتين وأكبر منك بأربع”.

ما كان يُحب أن يكبر. أحضرت “عوينات” الإستاذ. وأخذت عليه أن واسطته قوية مع وزارة الداخلية وإلا كيف يُعطى نمرة سيارة تحمل هذا الرقم 1943!